وعلى قول المعتزلة فيكون الله بالملائكة رحيما لأنه [.....](١) ولا ثواب ، ولكن الوجه فيه ما ذكرنا أنها سميت رحمة لما برحمته يدخل فيها.
وعلى هذا يخرج ما سمي المطر رحمة لما برحمته ينزل ، وكذلك كل ما سمي رحمة
__________________
ـ الأخير جزم الشيخ جمال الدين ابن هشام في المغني فسبق إليه فقال : ترد الباء للمقابلة وهي الداخلة على الأعواض كاشتريته بألف ، ومنه (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[النحل : ٣٢] وإنما لم تقدر هنا للسببية كما قالت المعتزلة وكما قال الجميع في «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» لأن المعطي بعوض قد يعطي مجانا بخلاف المسبب فلا يوجد بدون سبب ، قال : وعلى ذلك ينتفي التعارض بين الآية والحديث. قال الحافظ ابن حجر : سبقه إلى ذلك ابن القيم فقال في كتاب مفتاح دار السعادة : الباء المقتضية للدخول غير الباء الماضية ، فالأولى السببية الدالة على أن الأعمال سبب الدخول المقتضية له كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها ، والثانية بالمعاوضة نحو اشتريت منه بكذا فأخبر أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد ، وأنه لو لا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة لأن العمل بمجرده ولو تناهى لا يوجب بمجرده دخول الجنة ولا أن يكون عوضا لها ؛ لأنه ولو وقع على الوجه الذي يحبه الله لا يقاوم نعمة الله ، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة ، فتبقى سائر نعمه مقتضية شكرها وهو لم يوفها حق شكرها ، فلو عذبه في هذه الحالة لعذبه وهو غير ظالم ، وإذا رحمه في هذه الحالة كانت رحمته خيرا من عمله كما في حديث أبي بن كعب الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه في ذكر القدر ففيه «لو أن الله عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم ....» الحديث ، قال وهذا فصل الخطاب مع الجبرية الذين أنكروا أن تكون الأعمال سببا في دخول الجنة من كل وجه ، والقدرية الذين زعموا أن الجنة عوض العمل وأنها ثمنه وأن دخولها بمحض الأعمال ، والحديث يبطل دعوى الطائفتين والله أعلم. قلت : وجوز الكرماني أيضا أن يكون المراد أن الدخول ليس بالعمل ، والإدخال المستفاد من الإرث بالعمل ، وهذا إن مشي في الجواب عن قوله تعالى : (أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لم يمش في قوله تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث جواب آخر وهو أن يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولا. وإذا كان كذلك فأمر القول إلى الله تعالى ، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه ، وعلى هذا فمعنى قوله : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي تعملونه من العمل المقبول ، ولا يضر بعد هذا أن تكون الباء للمصاحبة أو للإلصاق أو المقابلة ، ولا يلزم من ذلك أن تكون سببية. ثم رأيت النووي جزم بأن ظاهر الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال ، والجمع بينهما وبين الحديث أن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله ، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل ، وهو مراد الحديث ، ويصح أنه دخل بسبب العمل وهو من رحمة الله تعالى ـ ورد الكرماني الأخير بأنه خلاف صريح الحديث. وقال المازري : ذهب أهل السنة إلى أن إثابة الله تعالى من أطاعه بفضل منه ، وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدل منه ، ولا يثبت واحد منهما إلا بالسمع ، وله سبحانه وتعالى أن يعذب الطائع وينعم العاصي ، ولكنه أخبر أنه لا يفعل ذلك وخبره صدق لا خلف فيه. وهذا الحديث يقوي مقالتهم ويرد على المعتزلة حيث أثبتوا بعقولهم أعواض الأعمال ، ولهم في ذلك خبط كثير وتفصيل طويل.
ينظر فتح الباري للحافظ ابن حجر (١٣ / ٨٥ ـ ٨٦).
(١) بياض في الأصل ، ولعله (لأنه لا عقاب هناك).