وذلك أبلغ في البرهان ، فأنبأ فيه علم الغيوب ، وفرض الفرائض ، وحكم فيه الأحكام ، وأنزل فيه الحجج بتأليف يعجز عنه من دون الله ؛ ليبين لهم أنه من عند الله ، فأنف (١) قومه ، وأبوا أن يستمعوه واستكبروا عليه ، وقالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] وقالوا : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦] ؛ فأتاهم العليم الخبير من قبل أنفسهم وكبرهم ؛ فأنزل في الكتاب كلاما افتتح به السورة لم يكن من كلام قومه ؛ فلما سمعوه ظنوا أنه بديع ابتدعه محمد صلىاللهعليهوسلم كإبداعهم (٢) البلاغات والأوابد ، وأنفوا أن يكون محمد يقدر من ذلك على ما لا يقدرون ، فتدبروا الكتاب ليعلموا صدوره بما بعده من الكلام ، فسمعوا كلاما مجيدا [حكيما](٣) ، ونبأ عظيما ، وحججا نيرة ، ومواعظ (٤) شافية ؛ فدخل أكثرهم في الإسلام ، وقعد عنه رجلان : معاند متعمد ، وجاهل مقلد (٥) لا ينظر ، وفيما
__________________
(٢) علم الأنساب : هو علم يتعرف منه أنساب الناس.
وقواعده الكلية والجزئية والغرض منه : الاحتراز عن الخطأ في نسب شخص ، وهو علم عظيم النفع جليل القدر أشار الكتاب العظيم في (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا)[الحجرات : ١٣] إلى تفهّمه.
وحث الرسول الكريم في «تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم» على تعلمه ، والعرب قد اعتنت بضبط أنسابها إلى أن كثر أهل الإسلام واختلطت أنسابهم بالأعاجم ؛ فتعذر ضبطه بالآباء ؛ فانتسب كل مجهول النسب إلى بلده أو حرفته أو نحو ذلك ، حتى غلب هذا النوع. ينظر أبجد العلوم (٢ / ١١٤).
(١) أنف أنفا وأنفة : استنكف واستكبر. ينظر المعجم الوسيط (١ / ٣٠) (أنف).
(٢) في ب : كابتداعهم.
(٣) سقط في ب.
(٤) في ب : ومواعظا. وهو خطأ من الناسخ ؛ لأن هذا الجمع في اللغة بصيغة منتهى الجموع فلا يلحقه التنوين ؛ إذ هو ممنوع من الصرف ينظر : لسان العرب (٦ / ٤٨٧٣) [وعظ].
(٥) التقليد لغة : مصدر قلد ، أي جعل الشيء في عنق غيره مع الإحاطة به.
وتقول : قلدت الجارية : إذا جعلت في عنقها القلادة ، فتقلدتها هي ، وقلدت الرجل السيف فتقلده : إذا جعل حمائله في عنقه. وأصل القلد ـ كما في لسان العرب ـ ليّ الشيء على الشيء ، نحو : ليّ الحديدة الدقيقة على مثلها ، ومنه : سوار مقلود.
وفي التهذيب : تقليد البدنة : أن يجعل في عنقها عروة مزادة ، أو حلق نعل ، فيعلم أنها هدي.
وقلد فلانا الأمر : ولاه إياه. ومنه تقليد الولاة الأعمال.
ويستعمل التقليد في العصور المتأخرة بمعنى المحاكاة في الفعل ، وبمعنى التزييف ، أي : صناعة شيء طبقا للأصل المقلد. وكلا المعنيين مأخوذ من التقليد للمجتهدين ؛ لأن المقلد يفعل مثل فعل المقلّد دون أن يدري وجهه. والأمر التقليدي : ما يفعل اتباعا لما كان قبل ، لا بناء على فكر الفاعل نفسه ، وخلافه : الأمر المبتدع.
ويرد التقليد في الاصطلاح الشرعي بأربعة معان :
أولها : تقليد الوالي أو القاضي ونحوهما ، أي توليتهما العمل. ـ