العباد لا يخلو من هذه الأوجه الثلاثة ، فإذا كان كذلك فدل إضافة ذلك إلى الله ـ تعالى ـ على أن لله فيه فعلا ، وهو أن خلق فعل ذلك منهم ، فهو على كل شيء قدير من كشف الضر له ، والصرف عنه ، وإصابة الخير لا يملك ذلك غيره.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).
في هذه الآية والآية الأولى ذكر أهل التوحيد ؛ لأنه أخبر أن ما يصيب العباد من الضر والشدة لا كاشف لذلك إلا هو ، ولا يدفع ذلك عنهم ولا يصرفه إلا الله ، وأن ما يصيبهم من الخير إنما يصيبهم بذلك الله ، وأخبر أنه على كل شيء قدير.
وفي قوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) إخبار أنه قاهر يقهر الخلق ، عزيز ، قادر ، وله سلطان عليهم ، وأنهم أذلاء تحت سلطانه.
وفي قوله : (فَوْقَ عِبادِهِ) إخبار بالعلوية ، والعظمة ، وبالتعالي عن أشباه الخلق.
(وَهُوَ الْحَكِيمُ) : يضع كل شيء موضعه (١).
(الْخَبِيرُ) : بما يسرون وما يعلنون ، إخبار ألّا يخفى عليه شيء ، وأنه يملك وضع كل شيء موضعه ، وأن ما يصيبهم من الضر والشدة إنما يكون به ، لا يملك أحد صرفه ، وأن [ما](٢) ضر أحد أحدا في الشاهد ، أو نفع أحد أحدا إنما يكون ذلك بالله في الحقيقة.
وفي هذه الأحرف : إخبار عن أصل التوحيد وما يحتاج إليه لما ذكرنا من الوصف له بالقدرة والقهر ، والوصف له بالعلو والعظمة ، والتعالي عن أشباه الخلق ، والوصف له بالحكمة في جميع أفعاله ، والعلم بكل ما كان ويكون.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً).
كأن في الآية إضمارا (٣) ـ والله أعلم ـ أي (قُلْ) يا محمد (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) ،
__________________
(١) أي ذو الحكمة وهي العلم بالأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي. ينظر نشر الطوالع (ص / ٣٢٢).
(٢) سقط في أ.
(٣) الإضمار على شريطة التفسير : هو أن يحذف من صدر الكلام ما يؤتى به في آخره ، فيكون الآخر دليلا على الأول.
وقد قسم ابن الأثير هذا الفن إلى ثلاثة أقسام :
الأول : أن يأتي على طريق الاستفهام ، فتذكر الجملة الأولى دون الثانية كقوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)[الزمر : ٢٩] بمعنى : أفمن شرح الله صدره للإسلام كمن أقسى قلبه ، ويدل على المحذوف قوله : (فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ).
الثاني : يرد على حد النفي والإثبات ؛ كقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا)[الحديد : ١٠] بمعنى : لا يستوي منكم من أنفق من ـ