وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ).
كأنه قال : أوحي إليّ هذا القرآن الذي تعرفون أنه من عند الله جاء ؛ لأنه قال لهم : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] فعجزوا عن إتيان مثله ، فدل عجزهم عن إتيان مثله أنهم عرفوا أنه جاء من عند الله.
وقوله ـ عزوجل ـ : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) : لا ينذر بالقرآن ولكن ينذر بما في القرآن ؛ لأنه فيه أنباء ما حل بأشياعهم بتكذيبهم الرسل ، وما يحل بهم من العذاب في الآخرة بتكذيبهم الرسل ، وإلا فظاهر القرآن ليس مما ينذر به ، (وَمَنْ بَلَغَ) كأنه قال : وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ، وأنذر من بلغه القرآن ، صار رسول الله نذيرا ببلوغ القرآن لمن بلغه ، فإذا [صار](١) نذيرا به لمن بلغه وإن كان هو في أقصى الدنيا يصير هو نذيرا في أقصى الزمان ، في كل زمان ، وهو ـ والله أعلم ـ كقوله ـ تعالى ـ : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرعد : ٧] ، ورسول الله هاد لقومه إلى يوم القيامة.
وفي الآية دلالة أن البشارة والنذارة يكونان ببعث آخر يبشر أو ينذر ، وهو دليل لقول أصحابنا (٢) : إن من حلف : أيّ عبد من عبيدي بشّرني بكذا فهو حرّ ، فبشره [برسول ، أو بكتاب](٣) يكون بشارة (٤).
وقوله ـ عزوجل ـ : (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى) فهذا (٥) في الظاهر استفهام (٦) ، ولكنه في الحقيقة إيجاب أنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ، بعد ما ظهر
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) عني بقوله «أصحابنا» السادة الأحناف أتباع الإمام أبي حنيفة النعمان وسيأتي ترجمته إن شاء الله تعالى في ص (٧٥٧).
(٣) في ب : بكتاب أو برسول.
(٤) أحكام القرآن للجصاص (١ / ٤٣).
(٥) في أ : هذا.
(٦) الاستفهام : هو طلب العلم بما في ضمير المخاطب ، وقيل : هو طلب حصول صورة الشيء في الذهن فإن كان تلك الصورة وقوع نسبة بين الشيئين أو لاوقوعها فحصولها هو التصديق وإلا فهو التصور.
والاستفهام أسلوب إنشائي طلبي يتطلب إجابة بأحد أمرين بنعم أو لا ، أو بالتعيين.
وله أدوات كثيرة كلها أسماء ما عدا أداتين منها هما : الهمزة وهل فإنهما حرفان.
فأما الهمزة فقد أوثرت بثلاثة أمور هي :
ـ التصدير : ولذلك قدمت على العاطف في قوله تعالى : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا)[البقرة : ١٠](أَفَسِحْرٌ هذا)[الطور : ١٥].
ـ طلب التعيين إذا ذكر معها المعادل نحو : أزيد عندك أم عمرو.
ـ الدخول على النفي للتقرير نحو قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) وغير التقرير نحو قولك : ألم تفعل ، لمن قال : لم أفعل. ـ