بعض في المنافع مع جميع (١) الأضداد التي من طبعها التنافر في أصل ما ذكر حتى صارت كالأشكال ، بعد أن كانت السموات والأرض مشبهة لا تشعر بما فيها من الحكمة ، ولا بالذي فيه من أنه من أي وجه يقضي الحاجة ؛ ليدل أن مدبّر الكل واحد ، وأنه عليم حكيم وضع كل شيء موضعه ودل كل ذي عقل على الوجه الذي يظفر بحاجته ، ويقيم به أوده ، ويصل إلى بغيته ، وسخر الذي ذكر ، فصير كلا من ذلك جاريا دائبا بما لا ينتفع هو به ، ولا مضرة عليه فيه ؛ ليعلم أنه لغيره قدر ولحاجة غيره سير ، وكذلك الذي جبل على القرار وأمسك عن الزوال من غير أن كان له في حقيقة أحد الوجهين نفع أو ضرر ؛ ليعلم أن تدبير ذلك جرى لا له ، ولكن لأهل الممتحنين الذين بهم يظهر العز والشرف ونيل الجود والكرم ، ويعظم الملك والسلطان ؛ إذ عندهم تمييز الأحوال ، وتفريق الأمور ، وتوجيه إلى حقه وإعطاء كل ذي فضل فضله. فيعلم من هذا وصفه أنه لم ينشأ عبثا ، ولا خلق باطلا ؛ إذ به يعظم قدر كل خلق ، ويشرف جلالة كل جليل ، لم يجز إمهال مثله ، فيكون خلق الجميع لغير شيء مما في ذلك من فنائه وتبدّده الذي في الحكمة قصد مثله في العقل يوجب العبث ثبت أنه خلق للمحنة ولدار البقاء ، لكن جعل البقاء جزاء ، والفناء محنة ؛ ليكون البقاء هو المنتهى ، فيعظم القصد في الابتداء ؛ إذ فاسد أن يجعل المحنة للبقاء ، فيدل على حاجة الممتحن مع ما في ذلك زوال الجزاء ؛ إذ محال تقديمه على ما له الجزاء ، والله الموفق.
ثم الأصل أن الله سبحانه جعل العقل جزءا من عالمه ، وجعله دليلا لأهله في معرفة المساوئ والمحاسن ، وعلما للتمييز بين الحكمة والسفه ، وبين الإتقان والعبث ، وجعله بالذي يعرف المحمود من المذموم ، والمرغوب فيه من المزجور عنه ، فلم يجز أن يكون إنشاء كل العالم على غير الحكمة ؛ لأنه سفه ، وهو بالذي جزء من العالم يعلم به الذميم من الحميد ثبت أنه أنشئ للحكمة.
وعلى ذلك تقدير كل عاقل على احتمال ما يضره وينفعه بحق الجزاء والمحنة ، فثبت أن ذلك للمحنة ، وأن المحنة ثم الهلاك بلا جزاء ولا نفع للممتحن عبث ـ أيضا ـ وسفه ، فلزم به القول بالبعث وإثبات دارين مما كان لكل شاهد دليل غائب يحمد عليه أو يذم ، وكذا فعل كل ذي عقل إنما هو لعاقبة يحمد عليها ، أو بفعل عبث فيذم عليه.
فعلى ذلك أمر تدبير هذه الدار من أخرى ، فلا يجوز أن يخلي الجملة عن الدلالة ، ولا
__________________
(١) في ب : جمع.