ذلك وقت ابتدائه ، وذلك ينقض على الباطنية قولهم : المبدع الأول لا يقع عن الزمان والمكان ، وأنه لا يبيد ولا يفنى ، ولو كان كذلك لم يكن مبدعا ، ولكن كان قديما لا يقع عليه الإبداع ، فلمّا وقت ثبت له البدء ؛ فيجب وصفه بالوقت من حيث الابتداء ، وهو ـ أيضا ـ معلول عندهم ، وعلته فيه وهو الإبداع ، مما لو زالت علته لباد ، وإذا ثبت أنه معلول ثبت أن علة أوجبته وأحدثته بعد أن لم يكن ، فوجب له وقت به كان أو كان فيه ، والله أعلم.
ثم على هذا كان إنشاء من ذكر في الأيام الستة ، ولم يذكر في ذلك ممتحنا ؛ فيشبه أن يكون وقت كون الممتحنين يوم السابع ، وبهم تم ظهور الملك ، واستوى على العرش ، وهو الملك إذا لم يكن قبل ذلك من له التمييز ، ومعرفة الملك والسلطان ، وقدر العلم بالمحامد والمعالي ، وأضداد ذلك إنما يكون بأولئك الذين ركب فيهم العقول ، وأكرموا بالتمييز ، ومما لهم يجعل العالم وهم المقصودون من الإنشاء ؛ لذلك جعل كل من سواهم مسخرا لمنافعهم ، داخلا تحت أفهامهم ، مما يحتمل أكثر ذلك تدبير ليعلم أنهم قصدوا لأنفسهم ، أو لمعرفة ما عليهم من شكر النعم والعبادة ، فكان بهم ظهور تمام الملك ، وبلوغه النهاية ، فأخبر بالاستواء إذ هو وصف العلو والرفعة ، ووصف التمام في الرتبة والقدر ؛ كقوله : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) [القصص : ١٤] وذلك في معنى الاستواء على العرش ؛ من حيث ظهور الملك ، وبيان الحجة والربوبية للمستدلّين والمعبرين.
وإن كان التأويل هو الثاني يخرج على وجهين.
أحدهما : ما قال بعض أهل التفسير : إن كل يوم من أيام الآخرة ، وذلك ألف سنة ، لم يبين لنا مقدار ذلك ؛ فجائز أن يكون منتهى تدبير هذا العالم إلى ذلك ستة أيام ، بمعنى ستة آلاف سنة على القدر الذي قدره الله ، ثم يكون اليوم السابع هو يوم القيامة ، لا يبيد أبدا ، ولا ينقضي ، فيه يبدل العالم ، ويقر كل ممتحن له بالملك والجلال ، وإن كان كذلك في الأزل ففي ذلك اتفاق القول من طريق الاختيار ، والعلم بذلك من كل جبار وغيره.
وعلى نحو ما قيل : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر : ١٦] وقيل : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [إبراهيم : ٢١] وقيل : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩] ونحو ذلك.
على أن له الملك أبدا ، وكذلك لم يكن يخفى عليه شيء ، لكن ذلك مما يعلم كل أنه كذلك ، فبذلك يتم ظهور كل معنى من ذلك ، وإن كانت حقيقته موجودة قبل ذلك.
وعلى ذلك القول : (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) [محمد : ٣١] ونحو ذلك.