إنه إذ ذلك يظهر لكل معلومه : فأضيف إليه بحرف الابتداء ، وهو عن ذلك متعال ؛ فعلى هذا جميع ما بيّنا ، وبذلك ظهور تمام شرائط الملك ، والاعتراف من الكل بذلك ، والله أعلم.
والثاني : أن تكون تلك الأيام الستة على ما في علم الله تعالى تقديرها ، لا يعلمه أحد سواه إلا من طريق الجملة التي أدى ، وقد بيّن يوما كخمسين ألف سنة (١) ، ويوما كألف سنة حده (٢) لا يعلمه غيره ، ثم كان يوم السابع يوم تبلى السرائر (٣) وتقع العقوبة والمثوبة ، وهو المقصود من خلق العالم الأول ؛ فيكون ما ذكرت من تمام الظهور ، والله الموفق. وعلى هذا لو قيل لما قيل يحملون العرش ، (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٧] ـ قيل : ليس أن المراد من هذا العرش الأوّل ، وجائز أن يكون هذا هو السرير المعروف ، منشؤه من النور ، ومما شاء ؛ ليكرم به أولياءه يوم القيامة ، والأول هو الملك الذي ظهر تمامه وعلوه على ما بينا.
ثم لو كان العرش الذي قال ـ عزوجل ـ : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [الرحمن : ٥] هو ما فهمه أهل التشبيه من مكان ، لم يكن ليجب أن يفهم من الاستواء عليه الاستقراء (٤).
__________________
(١) كما في قوله تعالى (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج : ٤].
(٢) كما في قوله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة : ٣٢].
(٣) جمع : سريرة ، وهي أعمال العباد التي يسرونها. قال الشاعر :
سيبقى لها في مضمر الود والحشا |
|
سرائر حب يوم تبلى السرائر |
ولما سمع الحسن هذا البيت قال : قاتله الله! إن في ذلك اليوم لشغلا.
ينظر : عمدة الحفاظ (٢ / ٢١٨).
(٤) وهنا أقرر مذهب المصنف ـ رحمهالله ـ ثم أعرج على بيان ما أختار في آخر المسألة في معنى الجهة والمكان.
تطلق الجهة على منتهى الإشارات الحسية ـ وأما معنى المكان فقد اختلف فيه :
فمذهب الفلاسفة إلى أنه عبارة عن بعد موجود قائم بنفسه مجرد عن المادة ؛ لأنه لو كان ماديّا لكان له مكان ؛ لأن كل مادة تحتاج إلى مكان ، وهكذا ؛ فيلزم التسلسل المحال ، ويسمون المكان : خلاء ، فالخلاء في اصطلاحهم هو البعد المجرد عن المادة.
وأما المتكلمون فقد عرفوه بأنه السطح الباطن من الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوى ؛ فهو أمر اعتباري لا وجود له عندهم.
وظاهر أن قول الفلاسفة في المكان ادعاء لا دليل عليه ، وخيال لا يقبله عقل ؛ فإنه ليس في الخارج إلا ذلك الفراغ المشاهد والجسم الحال فيه ، كما يقول المتكلمون ، وما وراء ذلك فهو أمر فرضي لا وجود له على التحقيق.
وقد ذهب أهل الحق إلى أنه تعالى ليس في جهة من الجهات ، فلا يقال : إنه عن يمين العرش أو ـ