في الآية إضمار ـ والله أعلم ـ من وجهين :
أحدهما : قوله : وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبوه إلا أخذنا أهلها المكذبين له بالبأساء ، وما ذكر ، وإلا لا يحتمل أن يرسل إليهم رسولا ثم يأخذهم بما ذكر من غير أن كان منهم رد وتكذيب له.
والثاني : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ) أهلكناها (مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها) قبل الهلاك (بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) ثم لم يأخذ الله قوما بالهلاك قبل أن يبعث رسولا إليهم ، وقبل : أن يغيّروا هم ما أنعم عليهم بأنفسهم ؛ كقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً ...) [القصص : ٥٩] الآية ؛ وقوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] ، وقال : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١] وقال : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) [القصص : ٥٩] وغير ذلك من الآيات ، أخبر أنه لا يأخذهم بالعذاب والهلاك إلا بعد قطع العذر لهم من جميع الوجوه ، وإن كان له الإهلاك قبل أن يبعث إليهم الرسول لما ركب فيهم من العقول السليمة مما بها يوصل إلى فهم كل ما جعل فيهم من آثار وحدانيته وآيات (١) ربوبيته ، وما جعل لهم من السمع والنطق ما به يوصل إلى سمع كل ما غاب والنطق بكل ما يريدون ، ما لم يجعل ذلك لغيرهم من البهائم ، وما أنعم عليهم من تصوير الصور ما لم يتمن أحد تحويله (٢) منها إلى غيرها من الصور ، لكنه لا يهلكهم إلا بعد بعث الرسل إليهم لما أن الخلق على مراتب ؛ منهم من يفهم بالعقل لا يحتاج إلى معونة السمع ، وهم الحكماء والعلماء الذين يدركون الأشياء بالبديهة ، ومنهم من لا يدرك إلا بمعونة السمع وهم كالصبيان ، إنهم لا يدركون إلا بالسمع وفضل التنبيه ، ومنهم من لا يدرك بالعقل ذلك ولا بالسمع حتى تصيبهم الشدائد والعبر (٣) في أنفسهم وفيما أنعم عليهم ، وهم كالبهائم الذين لا عقل لهم ولا سمع ، ولكن يعرفون الشدائد وما يصيبهم من البلاء ، فعلى ذلك يمتحنهم عزوجل ، ويبتليهم بالشدائد والبلايا أولا ، فإن رجعوا عن ذلك وعرفوا نعمه ، وإلا أهلكهم بعد ذلك فعند ذلك ينتهون ويتذكرون (٤) ، وذلك قوله : (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام : ٤٢].
__________________
(١) في ب : وآثار.
(٢) في أ : تأويله.
(٣) في أ : الغير.
(٤) في ب : يتفكرون.