وكقوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت : ٦٥] : ذكر هذا ـ والله أعلم ـ أنكم إذا مسكم الشدائد والبلايا لا تضرعون إلى الذين تشركون في عبادته وألوهيته ، فكيف (١) أشركتم أولئك في ربوبيته في غير الشدائد والبلايا ، (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) ، أي : تتركون ما تشركون بالله من الآلهة ؛ فلا تدعونهم أن يكشفوا عنكم؟
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ).
اختلف فيه :
قال بعضهم : البأساء : الشدائد التي تصيبهم من العدو ، والضراء : ما يحل بهم من البلاء والسقم السماوي.
وقال بعضهم : (٢) البأساء : هو ما يحل بهم من الفقر والقحط والشدة.
وعن ابن عباس (٣) ـ رضي الله عنه ـ قال : [قوله](٤)(فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ) : الزمانة والخوف ، (وَالضَّرَّاءِ) : البلاء والجوع.
(لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ).
أي : ابتلاهم بهذا ، أو امتحنهم لعلهم يتضرعون ، ويرجعون عما هم عليه.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا).
يذكر في ظاهر هذا أنه قد أصابهم البلاء والشدة ، ولم يتضرعوا ولكن قست قلوبهم ، ويذكر في غيره من الآيات أنه إذا أصابهم البلاء والشدائد تضرعوا ورجعوا عما كانوا عليه ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] ، وقوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) [العنكبوت : ٦٥] وغيرهما من الآيات. لكن يحتمل هذا وجوها :
أن هذا كان في قوم ، والأول كان في قوم آخرين ، وذلك أن الكفرة كانوا على أحوال ومنازل : منهم من كان على حال ، فإذا أصابه خير اطمأن به ، وإذا زال عنه وتحول تغير ؛ وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ...) الآية [الحج : ١١]. ومنهم من يتضرع ويلين قلبه إذا أصابه الشدة والبلاء ، وعند السعة والنعمة قاسي القلب معاند ؛ وهو كقوله : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ...) إلى آخر الآية [العنكبوت : ٦٥] ؛ وكقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧]. ومنهم : من
__________________
(١) في ب : كيف.
(٢) ذكره الرازي في تفسيره (١٢ / ١٨٥) وعزاه للحسن البصري بمعناه.
(٣) ذكره البغوي في تفسيره بمعناه (٢ / ٩٦).
(٤) سقط في ب.