وجائز أن يكون هذا من الله ابتداء تأديبا وتعليما (١) ؛ يعلم رسوله صحبة أصحابه ومعاملته معهم ؛ كقوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) [الكهف : ٢٨] ، ونهاه أن يمد عينه إلى ما متع أولئك ؛ كقوله : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ...) الآية [طه : ١٣١] ويخبره عن عظيم قدرهم عند الله.
وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي والحظر (٢) ، بل العصمة تزيد في النهي والزجر ، وأخبر أن ليس عليه من حسابهم من شيء ، وما من حسابك عليهم من شيء ، فإنما عليك البلاغ وعليهم الإجابة ؛ وهو كقوله :
(فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤].
وقوله ـ عزوجل ـ : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ).
يشبه أن يكونوا يجتمعون إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في كل غداة ومساء ، فيسمعون منه ، ثم يفترقون على ما عليه أمر الناس من الاجتماع في كل غداة ومساء عند الفقهاء وأهل العلم.
وجائز أن يكون ذكر الغداة والعشي كناية (٣) عن الليل كله وعن النهار جملة ؛ كقوله :
__________________
ـ وروى الإمام أحمد (١ / ٤٢٠) عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار ، فقالوا : يا محمد! أرضيت بهؤلاء؟ فنزل عليه القرآن : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) إلى قوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)[الأنعام : ٥١ ، ٥٣].
ورواه ابن جرير عن ابن مسعود أيضا قال : مر الملأ من قريش برسول الله صلىاللهعليهوسلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب وغيرهم من ضعفاء المسلمين وفيه : فقالوا : يا محمد! أرضيت بهؤلاء من قومك ، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ونحن نصير تبعا لهؤلاء؟ اطردهم ، فلعلك إن طردتهم نتبعك! فنزلت هذه الآية : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ...) إلى آخر الآية [الأنعام : ٥٢] الآية.
إذا علمت ذلك تبين أنه صلىاللهعليهوسلم لم يطردهم بالفعل ، وإنما هم بإبعادهم عن مجلسه آن قدوم أولئك ، ليتألفهم فيقودهم ذلك إلى الإيمان ، فنهاه الله عن إمضاء ذلك الهم.
وما أورده الرازي من كونه صلىاللهعليهوسلم طردهم ، ثم أخذ يتكلف في الجواب عنه ، لمنافاته العصمة على زعمه ، فبناء على واه. والقاعدة المقررة أن البحث في الأثر فرع ثبوته ، وإلا فالباطل يكفي في رده ، كونه باطلا.
والمعنى : لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك ، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك.
كقوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)[الكهف : ٢٨].
(١) ورد في ب : تأديب وتعليم. والصواب ما ذكر في (أ) على أنه صبي يكون.
(٢) في أ : الخطر.
(٣) الكناية لغة : أن تتكلم بشيء وتريد غيره ، يقال كنيت بكذا عن كذا وكنيت عن الشيء كناية ، وكنى عن الأمر بغيره ، يعني إذا تكلم بغيره مما يستدل عليه نحو الرفث والغائط. ينظر لسان العرب (٥ / ٣٩٤٤) ، ترتيب القاموس (٤ / ٩٢) ، الصحاح (٦ / ٢٤٧٧) ، أساس البلاغة للزمخشري ص (٨٣٦) ـ