قليلا وشيئا بعد شيء وحالا بعد حال حتى يألف الأشياء ويتمرن ويستمر عليها فيخرج من حد التأمل لها والحيرة فيها إلى التصرف والاضطرار إلى المعاش بعقله وحيلته وإلى الاعتبار والطاعة والسهو والغفلة والمعصية وفي هذا أيضا وجوه أخر فإنه لو كان يولد تام العقل مستقلا بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد وما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة وما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكافأة بالبر والعطف عليهم عند حاجتهم إلى ذلك منهم (١) ثم كان الأولاد لا يألفون آباءهم ولا يألف الآباء أبناءهم لأن الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء وحياطتهم فيتفرقون عنهم حين يولدون فلا يعرف الرجل أباه وأمه ولا يمتنع من نكاح أمه وأخته وذوات المحارم منه إذا كان لا يعرفهن وأقل ما في ذلك من القباحة بل هو أشنع وأعظم وأفظع وأقبح وأبشع لو خرج المولود من بطن أمه وهو يعقل أن يرى (٢) منها ما لا يحل له ولا يحسن به أن يراه أفلا ترى كيف أقيم كل شيء من الخلقة على غاية الصواب وخلا من الخطإ دقيقه وجليله (٣)
__________________
(١) أي بان يبر الابناء بآبائهم والعطف عليهم عند حاجة الآباء إلى ذلك في كبرهم وضعفهم ، وجزاء لما عانوا من الشدائد في سبيل تربية الابناء
(٢) خبر لقوله : أقل ما في ذلك.
(٣) ان بعض هذا البيان البديع من الامام عن تدرج الإنسان في نموه ، ونموه في أوقاته ، كاف في حكم العقل ، بان له صانعا صنعه عن علم وحكمة وتقدير وتدبير. ( عن كتاب الإمام الصّادق ) للشيخ محمّد حسين المظفر ج ١ ص ١٧١.