اعتبر يا مفضل بأشياء خلقت لمآرب الإنسان وما فيها من التدبير فإنه خلق له الحب لطعامه وكلف طحنه وعجنه وخبزه وخلق له الوبر لكسوته فكلف ندفه وغزله ونسجه وخلق له الشجر فكلف غرسها وسقيها والقيام عليها وخلقت له العقاقير لأدويته فكلف لقطها (١) وخلطها وصنعها وكذلك تجد سائر الأشياء على هذا المثال.
فانظر كيف كفي الخلقة التي لم يكن عنده فيها حيلة وترك عليه في كل شيء من الأشياء موضع عمل وحركة لما له في ذلك من الصلاح لأنه لو كفي هذا كله حتى لا يكون له في الأشياء موضع شغل وعمل لما حملته الأرض أشرا وبطرا (٢) ولبلغ به ذلك إلى أن يتعاطى أمورا فيها تلف نفسه ولو كفي الناس كلما يحتاجون إليه لما تهنئوا (٣) بالعيش ولا وجدوا له لذة ألا ترى لو أن امرءا نزل بقوم فأقام حينا بلغ جميع ما يحتاج إليه من مطعم ومشرب وخدمة لتبرم بالفراغ ونازعته نفسه إلى التشاغل بشيء فكيف لو كان طول عمره مكفيا لا يحتاج إلى شيء فكان من صواب التدبير في هذه الأشياء التي خلقت للإنسان أن جعل له فيها موضع شغل لكيلا تبرمه البطالة ولتكفه عن تعاطي ما لا يناله ولا خير فيه إن ناله.
__________________
(١) اللقط مصدر من لقط الشيء : اخذه من الأرض بلا تعب ، ولقط الطائر الحب : أخذه بمنقاره
(٢) الاشر والبطر « كلاهما بالفتح » بمعنى واحد.
(٣) وفي نسخة البحار تهنوا.