وأقام للعلم بها أنفق سوق حتى صارت كعبة العلم ومطاف أصحابه ، ومنتجع وفد الفضل ومراد طلاّبه.
ولمّا أصابت أمّة العلم فيها عين الزمان ، وشتّتت شملها يد الحدثان ، وهاجر أستاذه العلاّمة إلى دار الكرامة ، هاجر بأهله وأولاده إلى الغريّ الشريف ، والغريّ إذ ذاك مجمع شيوخ الطائفة وسدنة العلم ، ومختلف ذوي الفضل والفهم ، فتهافتت عليه الطلاّب تهافت الفراش على الشمع ، وضربوا إليه أكباد الإبل ما بين بصر الأرض والسّمع ، فوردت الأفهام لديه من علوم الشريعة أعذب منهل وأصفى شريعة ، وشرع في الدرس العمومي في داره الشريعة ، ثم وضع له منبر التدريس في القبّة التي فيها قبر أستاذه (١) ، فدرس هناك مدّة ، ثم في الجامع المعروف بـ ( الجامع الهندي ) وربّما كان له مجلس درس آخر في داره يحضره خواصّ أصحابه ، وكنت ـ والحمد الله ـ منهم ، وقد حضرنا عليه فيها قطعة صالحة من كتاب البيع ومسألتي المشتق واللباس المشكوك وغيرها.
وكان ـ سقى الله رمسه ـ قد فرّغ نفسه الشريفة للعلم والعبادة وتحامى الرئاسة ، ولو شاء أن يكون مرجعا للتقليد لرميت إليه منها المقاليد ، ولكنّه لفظ الدنيا لفظ النواة ، ورماها رمي الحجيج الحصاة ، ورأى الاجتناب عنها أولى ، وأنّ الآخرة خير له من الأولى ، فسلك مسلك أجداده الأمجاد ، وعاش فيها عيش الزهّاد ، ما بنى فيها دارا ، ولم يخلّف عقارا ، حتى أنّه لم يكن له لمّا أدركناه خادم يخدمه ، بل كان يذهب إلى السوق بنفسه لشراء حوائجه والطلبة حافّون به يسألونه عمّا أشكل عليهم من درسه وهو واقف على باب بعض الحوانيت.
وكان مع ما منحه الله من الطبع الحرّ والإباء المرّ ـ وذلك منه شنشنة هاشمية لا أخزميّة ، وسجيّة علويّة فاطميّة ـ في أقصى درجات حسن الخلق والتواضع
__________________
(١) السيد محمد حسن الشيرازي المتقدّم ذكره. ( مجد الدين ).