جعل جاعل ، ولا إصغاء إلى ردع رادع ، فإذا كان هذا حال الظن الناقص الكشف ، فكيف يكون القطع الّذي هو الكاشف التام.
هذا في الآثار الذاتيّة ، وأمّا في مقام الإطاعة والعصيان ، وترخيص الشارع في مخالفته بجعل أمارة أو نحوها في قباله ، فقد يقال : إن الحال فيها كالحال في تلك الآثار ، لأنّ من قطع على مائع بأنه خمر ، وعلم أنّ كلّ خمر محرّمة ، حصلت له صورة برهان بديهي الإنتاج ، وهي : أنّ هذه خمر ، وكلّ خمر يجب الاجتناب عنه ، فهذا يجب الاجتناب عنه ، فترخيص الشارع في شربه مع بقاء حكمه بحرمة جميع أفرادها مستلزم للتناقض.
أقول : لا يخلو هذا التناقض المدّعى لزومه من أن يكون بحسب الواقع ، أو عند الشارع ، أو القاطع ، أمّا الأوّلان فلا شك في عدم لزومه فيهما على نحو الكلّية ، وما أكثر القطع الّذي لا يصادف الواقع ويعلم خطأه الشارع ، فلا يصح الحكم على كلّي القطع بعدم جواز الردع عنه من هذه الجهة ، على أنه لا مانع عنه ، حتى في صورة إصابة الواقع ، كما ستعرف إن شاء الله.
وأما عند القاطع ، فلا يلزم المحال عنده إلاّ إذا تعلّق الردع عمّا قطع عليه وهو الحكم الواقعي ، بأن يقال : كلّ خمر محرّمة واقعا من غير تخصيص ، وهذه الخمر حلال واقعا ، ومثل هذا لا يجوز حتى في قبال الظنّ ، بل الاحتمال أيضا ، لأنّ امتناع الظن بالتناقض واحتماله كالقطع به ، فلا يعقل أن يقال : إنّ هذا حلال ومظنون الحرمة أو محتملها (١) ، وأمّا إذا كان مفاد الأمارة المعذورية في شربها ، أو رفع تنجّز حرمتها ، ونحو ذلك من المذاهب الآتية في جعل الأحكام الظاهرية ، وتصوّر جعل الأمارات ، فلا تناقض أصلا ، ولا دليل على الإمكان أقوى من الوقوع ، وقد وقع ذلك في ترخيص الشارع في ارتكاب مشكوك الحرمة ، بل
__________________
(١) أي : لا يعقل أن يقال : إن مظنون الحرمة أو محتملها حلال.