موجودة في وجوده تعالى بنحو أعلى وأتم ، وتتولد منه على سلسلتها الطولية تولد المعلول عن علّته التامة ، فانّ المعلول من مراتب وجود العلّة النازلة ، وليس شيئاً أجنبياً عنه. مثلاً الحرارة من مراتب وجود النار وتتولد منها ، وليست أجنبية عنها ، وهكذا.
وعلى هذا الضوء فمعنى علّية ذاته تعالى للأشياء ضرورة تولدها منها وتعاصرها معها ، كضرورة تولد الحرارة من النار وتعاصرها معها ، ويستحيل انفكاكها عنها ، غاية الأمر أنّ النار علّة طبيعية غير شاعرة ، ومن الواضح أنّ الشعور والالتفات لا يوجبان تفاوتاً في واقع العلية وحقيقتها الموضوعية ، فإذا كانت الأشياء متولدةً من وجوده تعالى بنحو الحتم والوجوب ، وتكون من مراتب وجوده تعالى النازلة بحيث يمتنع انفكاكها عنه ، فإذن ما هو معنى قدرته تعالى وسلطنته التامة. على أنّ لازم هذا القول انتفاء وجوده تعالى بانتفا شيء من هذه الأشياء في سلسلته الطولية ، لاستحالة انتفاء المعلول بدون انتفاء علّته.
وأمّا الثاني : فقد تقدّم (١) ما يدل من الكتاب والسنّة على أنّ صدور الفعل منه تعالى بارادته ومشيئته.
ومن هنا يظهر أنّ ما ذكر من الضابط للفعل الاختياري ، وهو أن يكون صدوره من الفاعل عن علم وشعور ، وحيث إنّه تعالى عالم بالنظام الأصلح فالصادر منه فعل اختياري ، لا يرجع إلى معنىً محصّل ، بداهة أنّ علم العلّة بالمعلول وشعورها به لا يوجب تفاوتاً في واقع العلية وتأثيرها ، فانّ العلة سواء أكانت شاعرة أم كانت غير شاعرة فتأثيرها في معلولها بنحو الحتم والوجوب ، ومجرد الشعور والعلم بذلك لا يوجب التغيير في تأثيرها والأمر بيدها ، وإلاّ لزم الخلف.
__________________
(١) في ص ٣٧٨.