وهذه هداية النجدين ، أي الطريقين ؛ إذ لو لم يفعل بهم ذلك لكانوا يعملون ما يبعّدهم من رحمته تعالى وهم لا يشعرون ، بل لا يتحقّق منهم طاعة ولا معصية قبل التكليف والبيان ؛ إذ لا يصف عاقل مَن فعل فعلاً لم يؤمر بفعله ويبيّن له بأنه مطيع ، ولا مَن تركه بأنه عاصٍ ؛ لأن الطاعة والمعصية إنما هي بفعل المأمور به أو عدم فعله.
فإذن لا بدّ من بعثة رسول هادٍ ومعلّم لما يريد الله من عباده ، ممّا يقرّبهم إلى مرضاته وينالون به السعادة الأبديّة التي خُلِقوا ليمنّ الله عليهم بها ، وما يبعّدهم عن ذلك ويوجب لهم الشقاوة الأبديّة ، وناراً لا ينقطع عذابها أُعدّت للعاصين.
وأيضاً لمّا خلق الله البشر محتاجاً إلى معاون له في تحصيل معاشه الذي به يتمكّن من عبادة ربّه من حين يولد إلى حين يموت ، لأنه لا يعيش إلّا بالأغذية والأدوية والأشربة والملبس والمسكن والمنكح وغير ذلك ، وتحصيل ذلك لا يتمكّن منه واحد وحده ، فالناس مضطرّون إلى معاملة بعضهم بعضاً ومشاركة بعضهم بعضاً في تحصيل ذلك ، ولجهلهم لا يعرف كلّ واحد ما يخصّه وما لا يملكه ، فافتقروا إلى مَن يرشدهم لهداية الله إلى ما يحتاجون من ذلك ، ويحكم لهم وعليهم.
وأيضاً فما خلق الله بحكمته في الأرض من المعادن والنبات والحيوان ممّا فيه ضرر بالعقل أو بالبدن ، وقد [ .. (١) ] ما هو متمّ ومزكّ لهما والناس لا يعرفونه ، فلا بدّ من مرشد هادٍ إلى ذلك ، يحلّل ويحرّم ، حاكم مطاع.
وأيضاً النفوس طُبعت على حبّ الرئاسة والقهر والغلبة ، وعلى حبّ الاختصاص والانفراد بالمال وكلّ ما تهواه وتشتهيه ، فكلّ واحدٍ يجهد في تحصيل ما يمكنه [ الحصول ] عليه من الدنيا ، وهذا يقتضي التشاجر والتحارب والتخاصم. فافتقروا إلى مَن يحكم لهم وعليهم ويقهرهم ويردّ الظالم عن المظلوم ، ويأخذ للمجنيّ عليه بحقّه بهداية الله.
__________________
(١) كلمة غير مقروءة.