ثم ذكر المحلوف عليه فقال :
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أي لقد خلقنا الإنسان فى أحسن صورة ، فجعلناه مديد القامة ، حسن البزّة ، يتناول ما يريد بيده لا كسائر الحيوان يتناول ما يريد بفيه ؛ إلى أنه خصه بالعقل والتمييز والاستعداد لقبول العلوم والمعارف ، واستنباط الحيل التي بها يستطيع أن يكون له السلطان على جميع الكائنات ، وله من الحول والطّول ما يمتد إلى كل شىء.
لكن قد غفل عما ميّز به ، وظنّ نفسه كسائر المخلوقات ، وراح يعمل ما لا يبيحه له العقل ، ولا ترضى عنه الفطرة ، وانطلق يتزوّد من متاع الدنيا والاستمتاع بشهواتها ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، وأعرض عن النظر فيما ينفعه فى معاده ، وما يرضى به ربه وما يوصله إلى النعيم المقيم ، «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».
وهذا ما أشار إليه بقوله :
(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي إنه استشرى فيه الفساد ، وأمعن فى سبيل الضلالة ، ونسى فطرته وعاد إلى حيوانيته ، وتردّى فى هاوية الشرور والآثام ، إلا من عصمهم الله فظلوا على فطرتهم التي فطرهم عليها ، وهم من عناهم سبحانه بقوله :
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي إلا الذين أشربت قلوبهم عقيدة الإيمان ، وعرفوا أن لهذا الكون موجدا دبّر أمره ، ووضع لخلقه شرائع يسيرون على نهجها ، وأيقنوا أن للشر جزاء وللخير مثله.
وهؤلاء سيعطون أجر صالح أعمالهم إذا انتقلوا إلى الحياة الثانية ، وهم أتباع الأنبياء ومن هداهم الله إلى الحق من كل أمة.
ثم وبخ المشركين على التكذيب بالجزاء بعد ظهور الدليل عليه فقال :
(فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ؟) أي فأىّ سبب يحملك أيها الإنسان على التكذيب