وقبل أن تحدثه الآداب ، وقيل جري المذكيات غلاب ، أبو الحسن الجوهري أيّده الله ، وبناؤه منذ حين وخصوصه بي كالصبح المبين ، إلاّ أنَّ لمشاهدة الحاضر ومعاينة الناظر ، مزيّةً لا يستقصيها الخبر ، وإن امتدَّ نفسه وطال عنانه ومرسه ، وقد ألف إلى هذه الفضيلة التي فرع بنيها (١)) ، وأوفى على ذوي التجربة والتقدمة فيها ، نفاذاً في أدب الخدمة ، ومعرفةً بحقِّ الندام والعشرة ، وقبولاً يملأ به مجلس الحفلة ، إنصاتاً للمتبوع إلاّ إذا وجب القول ، وإعظاماً للمخدوم إلاّ إذا خرج الأمر ، وظرفاً يشحن مجلس الخلوة ، وحديثاً يسكت به العنادل ، ويطاول البلابل ، فإن اتّفق أن يفسح له في الفارسيّة نظماً ونشراً طفح آذيّه ، وسال آتيّه ، فألسِنة أهل مصره ـ إلاّ الأفراد ـ بروقٌ إذا وطئوا أعقاب العجم ، وقيودٌ إذا تعاطوا لغات العرب ، حتى إنّ الأديب منهم المقدّم والعليم المسوّم يتلعثم إذا حاضر بمنطقه ، كأنّه لم يدرِ من عدنان ، ولم يسمع من قحطان ، ومن فضول أخينا أو فضله أنّه يدّعي الكتابة ، ويدارس البلاغة ، ويمارس الإنشاء ، ويهذي فيه ما شاء ، وكنت أخرجته إلى ناصر الدولة أبي الحسن محمد بن إبراهيم ، فوفّق التوفيق كلّه صيانةً لنفسه ، وأمانةً في ودائع لسانه ويده ، وإظهاراً لنسك لم أعهده في مسكه ، حتى خرج وسلم على نقده ، وإنّ نقده لشديدٌ لمثله ، ومولاي يجريه بحضرته مجراه بحضرتي ، فطعامه ومنامه وقعوده وقيامه إمّا بين يديّ ، أو بأقرب المجالس لديّ ، ولا يقولنَّ : هذا أديب وشاعر ، أو وافد وزائر ، بل يحسبه قد تخفّف بين يديه أعواماً وأحقاباً ، وقضى في التصرف لديه صِباً وشباباً ، وهذا إنّما يحتاج إلى وسيط وشفيع ما لم ينشر بزّه ، ولم يظهر طرزه ، وإلاّ فسيكون بعدُ شفيع من سواه ، ووسيط من عداه ، فهناك بحمد الله درقه وحدقه (٢) ، ووجنة مطرفه ، وما أكثر ما يفاخرنا بمناظر جرجان وصحاريها ورفارفها وحواشيها ، فليملأ مولاي عينه من منتزهات أصبهان ، فعسى طماحه أن يخفَّ وجماحه أن يقلَّ.
__________________
(١) فرع بنيها : علاهم شرفاً وجاهاً.
(٢) الدرق : الصلب من كلّ شيء ، ومنها الدرقة وهي الترس ، وحدقه : أي نظره وإحاطته.