النقد والاستنتاج والترتيب والتعميم وتحليل محصّلة حاسّتي البصر والسمع وسواهما ، أفلا يستحقّ الذين لا يشكرونه على هذه الأدوات الثلاث للمعرفة الذمّ واللوم؟ ألا يكفي التدقيق في تفاصيلها دليلا على معرفة الخالق وعظيم إحسانه للعباد؟
وتقديم ذكر الاذن والعين على العقل في الآية المذكورة له ما يسوّغه. ولكن لماذا تقدّم السمع على البصر؟ يحتمل ـ كما يقول العلماء ـ أنّ أذن الوليد تعمل أوّلا ، ثمّ عينه ، فالعينان مغلقتان في عالم الرحم وليست لديهما أي استعداد وقابلية على مشاهدة أمواج النور ، ولذلك تبقيان هكذا بعد الولادة قليلا ، ثمّ تتعودان النور تدريجيّا.
وليست الأذنان هكذا ، حتّى أنّ بعضهم يرى أنّها قادرة على السماع حتّى في الرحم (١). فهي تسمع صوت دقّات قلب الامّ.
إنّ بيان المواهب الثلاث أعلاه يشكّل دافعا لمعرفة واهب هذه النعم ، وهو المنعم الوحيد حقّا (مثلما يرى علماء العقائد في بعث شكر المنعم أساسا لوجوب معرفة الله عقلا).
وتناولت الآية اللاحقة خلق الله سبحانه للإنسان من التراب ، فتقول : (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) (٢).
وبما أنّه ـ جلّ اسمه ـ خلقكم من الأرض ، لذلك ستعودون إليها مرّة ثانية ، ثمّ يبعثكم : (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
ولو فكّرتم في خلقكم من تراب لا قيمة له ، لدلّكم على خالق الوجود سبحانه ، وعرّفكم على كريم لطفه بكم وإحسانه إليكم ، وقادكم إلى الإيمان به
__________________
(١) تحدّثنا عن أجهزة التعرّف الثلاثة في تفسير الآية (٧٨) من سورة النحل.
(٢) «ذرأ» مشتقّة من الذرء (على وزن زرع). وهي في الأصل بمعنى الخلق والإيجاد والإظهار ، إلّا أنّ كلمة (ذرو) وهي أيضا على وزن فعل بمعنى البعثرة. الآية الأولى من النوع الأوّل.