الذي لم تصل غايته مواقع الأقلام ومطالع الأوهام ؛ بينما عامر الشّعبيّ الذي تلقى أخبار هذه المغازي سماعا ، يرويها مفصلة كاملة أكثر من تلك المودعة في خزائن حفظنا.
ولما كان الأمر كذلك ، فإن كل من أعرض عن علوم التواريخ ، تطاولت عليه يد الدهر ، وانهالت عليه النوائب من كل الجوانب ، ولم يكن له طريق من المسموع والمنقول ينجيه من تلك الآفات ، فعقله لم يستنز بالتجربة ؛ لأن مسالك الأوهام ، ومناهج الأفهام ، قد بلغت بالقصص والأخبار غاية السعة ، والرجل العالم بالتواريخ يأنس بمعرفة التجربة ونورها :
بصير بأعقاب الأمور كأنّه |
|
يرى بجميل الظنّ ما الله صانع (١) |
[١٢] فائدة أخرى : إن التجربة من فضائل بني الإنسان ، والتجارب مقدمات معلومة في المعارف المعروفة ؛ وإن الوصول إلى الكمال إنما هو بمداد التجربة ، ومهما كان الفكر محكما وثابتا ، فإنه يتيه في ظلمة الوقائع ، وخوف الفجائع ، ولا يمكن لهذا الفكر أن ينور إلا بالتجربة ، والعيش لا يهنأ بسوى معرفة أسباب النفع ودفع الضر ؛ وأشجار الأخلاق لا تزدان إلا بتهذيب التجربة ، وإن من بين العقول عقلا يقال له : عقل التجارب ، فكما أن كمال الثمرة في النضج ، فإن كمال الفكر في التجربة ، ومن الأقوال السائرة على السن العامة قولهم للمجرب : نضيج الرأي.
وللتجربة ثلاثة طرق :
__________________
(١) عزاه التنوخي (الفرج بعد الشدة ، ٢ / ٤٣٩) لمسكين الدارمي ، والبيت هناك هو :
وأني لأرجو الله حتى كأنني |
|
أرى بجميل الظن ما الله صانع |
لكنه ورد مع أبيات أخر في عيون أخبار الرضا (٢ / ٧٨) منسوبا لواحد من أهل بيت الإمام موسى ابن جعفر ، وفيه : حتى كأنما.