ثم جدّد البكاء بالانتحاب الزائد ، لفراق شيخ الإسلام الوالد ، فحرّك لواعج أحزان لم تفتر ولم تهمد ، وأضرم نيران أشجان لم تنطف ولم تخمد ، فأخذ كل منّا من ذلك حظه وبلغ منه نصيبه ، واسترجعنا [٦٦ أ] وحوقلنا (١) من تلك المصيبة ، وتوجّعنا وتألّمنا من رشق سهامها المصيبة ، ثم أخذنا نجول في ميادين مذاكرة ، ونخوض في بحار محاورة ، ونستخرج كمائن محادثة ، ونستفتح خزائن منافثه ، ونجتلي أبكار أفكار ، ونجتذب أهداب (٢) آداب ، ونقيد شوارد فوائد وأوابد فرائد ، فمضى لنا من ذلك يوم : [من الوافر]
أشفّ من الليالي في صفاء |
|
وأحلى من معاطاة الكؤوس |
فلما استوت شمس ذلك اليوم ، ومالت الرؤوس وقت القيلولة للنوم ، خرجنا من عنده للسلام على صاحبنا وصديقنا وحبيبنا الشيخ الأوحد والإمام الأمجد ملا حاجي جلبي عبد الرحيم بن علي بن المؤيد (٣) ، هو صدر من صدور أئمة الدّين ، وكبير من كبراء الأولياء المهتدين ، وقدوة في أفراد العلماء الزاهدين ، حامل لواء المعارف ، ومحرز التالد منها والطارف ، محافظ على الكتاب والسّنّة ، قائم بأداء الفرض والسّنّة ، حامل لأعباء صلاح الأمة ، باسط للضعفاء وذوي الحاجات جناح الرأفة والرحمة (٤) ، ذو أوراد وأذكار يعمّر بها [٦٦ ب] مجالسه ، وأحوال وأسرار يغمر بها مجالسه ، وجدّ في العبادة ، وجهد في الزهادة ، ومواظبة صيام ، وملازمة قيام : [من الكامل]
__________________
(١) الاستراجاع قول : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون» ، والحوقلة قوله : «لا حول ولا قوة إلّا بالله».
(٢) وردت في (م) و (ع): «أهذاب».
(٣) توفي سنة ٩٤٤ ه ، وترجم له نجل صاحب الرحلة في الكواكب السائرة ٢ : ١٦٥ ـ ١٦٧ ، والشقائق النعمانيّة ٢٥٨ ـ ، شذرات الذهب ١٠ : ٣٦٤.
(٤) وردت في (ع): «الراحمة».