هناك أيام التشريق ، وليالي البيض) (١) ذات الوجه الشريق ، وكنّا قد بعنا بعض الخيل والبغال ، واستخرنا الله تعالى في السفر مع الجمال ، وكان قد تهيأ في تلك الأيام قفل كبير إلى بلاد الشّام ، فرددت الاستخارة ، وجددت الاستشارة في السفر معه في المحارة (٢) ، فجاء أكابر القفل إلينا وقالوا : أنت المؤمّر علينا وألقوا إلينا مقاليد الأمور ، وقالوا : مر متى شئت بالمرور ، فكلّ منّا بطاعتك مأمور ، فوقع الاتفاق مع تلك الرفاق ، أن يكون يوم الأحد منتصف الشهر التبريز إلى الوطاق ، وكنت قد سئمت من النوى (٣) والشتات ، وأزعجني خبر (٤) الجنّة تحت أقدام الأمهات ، وهمت بالوطن هيام ابن طالب بالحوض والعطن ، وحننت إلى تلك البقاع حنينه إلى أثلاث القاع وأخذت في الإزماع ، وفاجأت الأصحاب بالوداع ، وعزمت عزما أذن للدموع [١٧٠ أ] بالانسكاب وللقلوب بالانصداع : [من الطويل]
ويوم وقفنا للوداع وكلّنا |
|
يعدّ مطيع الشوق من كان أجزما |
نصرت بقلب لا يعنف في الهوى |
|
وعين متى استطمرتها أمطرت دما (٥) |
فياله وداعا ذابت له الأجساد ، والتهبت به الأكباد ، وكاد يتصدع منه الفؤاد ، ثم أنشدت أولئك المودّعين ما قاله بعض المتأدّبين (٦) : [من الوافر]
أودّعكم وأودعكم لقلبي |
|
وعون الله حسبكم وحسبي |
__________________
(١) ما بين القوسين كتب في (م) على الهامش فذهب أغلبه ، وفي (ع) ترك بياضا.
(٢) وردت في (ع): «التجارة». والمحارة : شبه الهودج (القاموس المحيط ٤٨٧).
(٣) وردت في (ع): «الهوى».
(٤) سقطت هذه الكلمة من (م) و (ع).
(٥) البيتان في معاهد التنصيص ١ : ٢٤٧ منسوبة للشريف الرضي.
(٦) البيت الأول قاله الشاعر جمال الدين ابن نباتة ، وردّ عليه في البيت الثاني الرحالة خالد بن عيسى البلوي ، عند اجتماعهما في بيت المقدس سنة ٧٣٧ ه. (انظر : تاج المفرق ١ : ٢٧٤).