وهو يريد البول فقال : يا أعرابي احفظ علىّ فرسي حتى أبول ، فسعى نحوه وأخذ بركابه ، فنزل المهدي ودفع الفرس إليه ، فأقبل الأعرابي على السرج يقلع حليته ، وفطن المهدي وقد أخذ حاجته ، فقدم إليه فرسه وجاءت الخيل نحوه وأحاطت به ، ونذر بها الأعرابيّ فولى هاربا ، فأمر برده فقال ـ وخاف أن يكون قد غمز به ـ فقال : خذوا ما أخذنا منكم ودعونا نذهب إلى حرق الله وناره! فقال المهدي ـ وصاح به ـ تعال لا بأس عليه ، فقال : ما تشاء جعلني الله فداء فرسك. فضحك من حضره وقالوا : ويلك ، هل رأيت إنسانا قط قال هذا؟ قال : فما أقول؟ قالوا : قل جعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين. قال : أوهذا أمير المؤمنين؟! قالوا : نعم! قال : والله لئن أرضاه هذا مني ما يرضيني ذاك فيه ، ولكن جعل الله جبريل وميكائيل فداءه وجعلني فداءهما. فضحك المهدي واستطابه ، وأمر له بعشرة آلاف درهم ، فأخذها وانصرف. قال ابن عرفة : وبلغني أن المهدي لما فرغ من بناء عيسى آباذ ركب في جماعة يسير لينظر ، فدخله مفاجأة وأخرج من كان هناك من الناس. وبقي رجلان خفيا عن أبصار الأعوان ، فرأى المهدي أحدهما ، وهو دهش ما يعقل فقال : من أنت؟ قال : أنا ، أنا ، أنا ، قال : ويلك من أنت؟ قال : لا أدري. قال : ألك حاجة؟ قال : لا لا. قال : أخرجوه اخرج الله نفسه. فدفع في قفاه فلما خرج قال لغلام له : اتبعه من حيث لا يعلم ، فاسأل عن أمره ومهنته فإني أخاله حائكا ، فخرج الغلام يقفوه. ثم رأى الآخر فاستنطقه ، فأجابه بقلب جريء ، ولسان منبسط ، فقال : من أنت؟ فقال : رجل من أبناء رجال فأتمتع بالنظر ، وأكثر الدعاء لأمير المؤمنين بطول المدة وتمام النعمة ، ونماء العز والسلامة. قال : أفلك حاجة؟ قال : نعم ، خطبت ابنة عمي فردني أبوها ، وقال : لا مال لك. والناس يرغبون في الأموال ، وأنا بها مشعوف ، ولها وامق. قال : قد أمرت لك بخمسين ألف درهم ، قال : جعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين قد وصلت فأجزلت الصلة ، ومننت فأعظمت المنة ، فجعل الله باقي عمرك أكثر من ماضيه ، وآخر أيامك خيرا من أولها ، وأمتعك بما أنعم به ، وأمتع رعيتك بك. فأمر أن تعجل له صلته ، ووجه ببعض خاصته معه وقال : سل عن مهنته فإني أخاله كاتبا. فرجع الرسولان معا ، فقال الأول : وجدت الأول حائكا. وقال الآخر : وجدت الرجل كاتبا ، فقال المهدي : لم تخف علىّ مخاطبة الكاتب والحائك (١).
__________________
(١) انظر الخبر في : المنتظم ٨ / ٢١٢ ـ ٢١٤