كقوله : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) (١) فذلك البناء الذي أمر به يوقد عليه ، وليس في النار ، لكن يصيبه لهبها. وقال مكي وغيره : في النار متعلق بمحذوف تقديره : كائنا ، أو ثابتا. ومنعوا تعليقه بقوله : توقدون ، لأنهم زعموا أنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار ، وتعليق حرف الجر بتوقدون يتضمن تخصيص حال من حال أخرى انتهى. ولو قلنا : إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار ، لجاز أن يكون متعلقا بتوقدون ، ويجوز ذلك على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله : يطير بجناحيه ، وانتصب ابتغاء على أنه مفعول من أجله ، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه. وقال الحوفي : هو مصدر في موضع الحال أي : مبتغين حلية ، وفي ذكر متعلق ابتغاء تنبيه على منفعة ما يوقدون عليه. والحلية ما يعمل للنساء مما يتزين به من الذهب والفضة ، والمتاع ما يتخذ من الحديد والنحاس وما أشبههما من الآلات التي هي قوام العيش كالأواني ، والمساحي ، وآلات الحرب ، وقطاعات الأشجار ، والسكك ، وغير ذلك. وزبد مرفوع بالابتداء ، وخبره في قوله : ومما توقدون. ومن الظاهر أنها للتبعيض ، لأن ذلك الزبد هو بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن. وأجاز الزمخشري أن تكون من لابتداء الغاية أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء ، والمماثلة في كونهما يتولدان من الأوساخ والأكدار ، والحق والباطل على حذف مضاف أي : مثل الحق والباطل. شبه الحق بما يخلص من جرم هذه المعادن من الأقذار والخبث ودوام الانتفاع بها ، وشبه الباطل بالزبد والمجتمع من الخبث والأقذار ، ولا بقاء له ولا قيمة. وفصل ما سبق ذكره مما ينتفع به ومن الزبد ، فبدأ بالزبد إذ هو المتأخر في قوله : زبدا رابيا ، وفي قوله : زبد مثله ، ولكون الباطل كناية عنه وصف متأخر ، وهي طريقة فصيحة يبدأ في التقسيم بما ذكر آخرا كقوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) (٢) والبداءة بالسابق فصيحة مثل قوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (٣) (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ) (٤) وكأنه ـ والله أعلم ـ يبدأ في التفصيل بما هو أهم في الذكر. وانتصب جفاء على الحال أي : مضمحلا متلاشيا لا منفعة فيه ولا بقاء له. والزبد يراد به ما سبق من ما احتمله السيل وما خرج من حيث المعادن ، وأفرد الزبد بالذكر ولم يثن ، وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية ، فهما واحد باعتبار القدر المشترك. وقرأ رؤبة : جفالا باللام بدل الهمزة من
__________________
(١) سورة القصص : ٢٨ / ٣٨.
(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٠٦.
(٣) سورة هود : ١١ / ١٠٥.
(٤) سورة هود : ١١ / ١٠٦.