وقال أبو عبد الله الرازي : أمر بثلاثة ، ونهى عن ثلاثة. فالعدل التوسط بين الإفراط والتفريط ، وذلك في العقائد وأعمال الرعاة. فقال ابن عباس : العدل لا إله إلا الله ، وهو إثبات الإله الواحد ، فليس تعطيلا محضا ولا إثبات أكثر من إله. وإثبات كونه عالما قادرا واجب الصفات فليس نفيا للصفات ، ولا إثبات صفة حادثة متغيرة. وكون فعل العبد بواسطة قدرته تعالى ، والداعية التي جعلها فيه فليس جبرا محضا ، ولا استقلالا بالفعل. وكونه تعالى يخرج من النار من دخلها من أهل التوحيد ، فليس إرجاء ولا تخليدا بالمعصية. وأما أعمال الرعاة فالتكاليف اللازمة لهم ، فليس قولا بأنه لا تكليف ، ولا قولا بتعذيب النفس واجتناب ما يميل الطبع إليه من : أكل الطيب ، والتزوج ، ورمي نفسه من شاهق ، والقصاص ، أو الدية ، أو العفو ، فليس تشديدا في تعيين القصاص كشريعة موسى عليهالسلام ، ولا عفوا حتما كشريعة عيسى عليهالسلام ، وتجنب الحائض في اجتناب وطئها فقط فليس اجتنابا مطلقا كشريعة موسى عليهالسلام ، ولا حل وطئها حالة الحيض كشريعة عيسى عليهالسلام ، والاختتان فليس إبقاء للقلفة ولا قطعا للآلة كما ذهب إليه المانوية. وقال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (١) (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا) (٢) ولا تجعل الآيتين. ومن المشهور قولهم بالعدل : قامت السموات والأرض ، ومعناه : إن مقادير العناصر لو لم تكن متعادلة ، وكان بعضها أزيد ، لغلب الازدياد وانقلبت الطبائع. فالشمس لو قربت من العالم لعظمت السخونة واحترق ما فيه ، ولو زاد بعدها لاستوى الحر والبرد. وكذا مقادير حركات الكواكب ، ومراتب سرعتها ، وبطئها. والإحسان : الزيادة على الواجب من الطاعات بحسب الكمية والكيفية ، والدواعي ، والصوارف ، والاستغراق في شهود مقامات العبودية والربوبية. ومن الإحسان الشفقة على الخلق ، وأصلها صلة الرحم ، والمنهي عنه ثلاثة. وذلك أنه أودع في النفس البشرية قوى أربعة : الشهوانية وهي تحصيل اللذات ، والغضبية وهي : إيصال الشر ، ووهمية : وهي شيطانية تسعى في الترفع والتراوس على الناس. فالفحشاء ما نشأ عن القوّة الشهوانية الخارجة عن أدب الشريعة ، والمنكر ما نشأ عن الغضبية ، والبغي ما نشأ عن الوهمية انتهى ما تخلص من كلامه عفا الله عنه. ولما أمر تعالى بتلك الثلاث ، ونهى عن تلك الثلاث قال : يعظكم به ، أي بما ذكر تعالى من أمر ونهي ، والمعنى : ينبهكم أحسن تنبيه لعلكم تذكرون أي : تتنبهون لما أمرتم به ونهيتم عنه ،
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ١٤٣.
(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ٦٧.