الجدال قول كل أحد من الأنبياء وغيرهم : نفسي نفسي. قال ابن عطية : وهذا ليس بجدال ولا احتجاج ، إنما هو مجرد رغبة. واختار الزمخشري هذا القول ، وركب معه ما قبله فقال : كأنه قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره ، كل يقول : نفسي نفسي. ومعنى المجادلة الاعتذار عنها كقولهم : (هؤُلاءِ أَضَلُّونا) (١) و (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ونحو ذلك. وقال : يقال لعين الشيء وذاته نفسه ، وفي نقيضه غيره ، والنفس الجملة كما هي ، فالنفس الأولى هي الجملة ، والثانية عينها وذاتها. وقال ابن عطية : أي كل ذي نفس ، ثم أجرى الفعل على المضاف إليه المذكور ، فأثبت العلامة. ونفس الأولى هي النفس المعروفة ، والثانية هي بمعنى البدن كما تقول : نفس الشيء وعينه أي ذاته. وقال العسكري : الإنسان يسمى نفسا تقول العرب : ما جاءني إلا نفس واحدة أي : إنسان واحد. والنفس في الحقيقة لا تأتي ، لأنها هي الشيء الذي يعيش به الإنسان انتهى.
(فإن قلت) : لم لم يتعد الفعل إلى الضمير ، لا إلى لفظ النفس؟ (قلت) : منع من ذلك أنّ الفعل إذا لم يكن من باب ظن ، وفقد لا يتعدى فعل ظاهر فاعله ، ولا مضمره إلى مضمره المتصل ، فلذلك لم يجىء التركيب تجادل عنها ، ولذلك لا يجوز : ضربتها هند ولا هند ضربتها ، وإنما تقول : ضربت نفسها هند ، وضربت هند نفسها ، ما عملت أي : جزاء ما عملت من إحسان أو إساءة ، وأنث الفعل في تأتي ، والضمير في تجادل وفي عن نفسها ، وفي توفي ، وفي عملت ، حملا على معنى كل ، ولو روعي اللفظ لذكر. وقال الشاعر :
جادت عليها كل عين ثرة |
|
فتركن كل حديقة كالدرهم |
فأنث على المعنى. وما ذكر عن ابن عباس : أنّ الجدال هنا هو جدال الجسد للروح ، والروح للجسد لا يظهر قال : يقول الجسد : رب جاء الروح بأمرك به نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي ، فتقول الرّوح : أنت كسبت وعصيت لا أنا ، وأنت كنت الحامل وأنا المحمول ، فيقول الله عزوجل : أضرب لكما مثل أعمى حمل مقعدا إلى بستان فأصابا من ثماره ، فالعذاب عليكما. وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد ، وقتادة : أن القرية المضروب بها المثل مكة ، كانت لا تغزي ولا يغار عليها ، والأرزاق تجلب إليها ، وأنعم الله عليها بالرسول صلىاللهعليهوسلم فكفرت ، فأصابها السنون والخوف. وسرايا الرسول وغزواته ضربت مثلا لغيرها مما يأتي بعدها. وهذا وإن كانت الآية مدنية ، وإن كانت مكية فجوع السنين وخوف
__________________
(١) سورة الأعراف : ٧ / ٣٨.