فحين بلغني ذلك اشتد علي القهر. ثم قوّمت حساباتي فوجدت أحوالي متأخرة جدا. فاضطررت أن أغادر جزيرة قبرص ، فتوجهت إلى بلدي حلب.
وبعد دخولي إلى بلدي بقليل من الأيام ، دعيت عند بعض الأحباب الإفرنج إلى العشاء ، وكان هناك عدد من المدعوين غيري ، ومن جملتهم واحد يعتبرونه جدا مع أنه زري الهيئة. فبعد العشاء صار بسط وانشراح ، وحديث لأجل تمضية السهرة. وكان هذا الرجل الغريب الزي دائما جالسا إلى جانبي ، ويحبّ أن يسمع حديثي. فسألت بعض الحاضرين من هو هذا الرجل فأجابوني أنه من أكابر بلاد الإفرنج ، يقال له الخواجة تيودور لاسكاريس دي فنتيميل ، من عظماء أشراف مالطة سابقا (١). فبعد أن سمعت ذلك ازداد إعتباري له جدا ، وأثناء الحديث ، أعلمته أني أحب الموسيقى وأضرب على آلات الطرب. فثاني يوم للقائنا حضر إلى بيتي ومعه كمنجة قدمها لي هدية وقال لي : يا حبيبي ، إنك عزيز علي ، وأود أن أعاملك مثل ولدي. وبما أنك تحب الموسيقى جئت بهذه الكمنجة ، وأرجو أن ١ / ٣ تقبلها مني. / فقبلتها منه وصار عندي عزيزا جدا لأنه وهبني شيئا يسرني.
وثاني يوم أتى إلى عندي ، واستمر على هذه الحالة عدة أيام ، وكان دائما حديثه معي بحكايات وأمور غريبة ، حتى فهم عقلي وأطباعي جيدا. ثم بعد ذلك قال لي يا ولدي أريد منك أن تعلمني اللسان العربي (٢) ، قراءة وكتابة وحديثا ، وأنا أعطيك كل شهر مئة غرش ، تعلمني ساعة فقط ، فأخذني العجب من ذلك ، وقلت في نفسي أنا لا أستحق هذه الأجرة ، ولا جرت العادة ، في بلادنا أن تعطى مثل هذه الإجرة للمعلم. فابتدأت أعلمه ساعة كل يوم ، على حسب الشرط الذي صار بيننا ، وأقمنا على هذه الحالة ستة أشهر.
ثم بعد هذه المدة كان تعلم نوعا ما ، وصار يتكلم ويقرأ ويكتب قليلا ، فقال لي : يا ولدي الحبيب أنت دائما عينك بالمتجر ، وتحب البيع والشراء وأرباح التجارة ، فقم بنا نتسوق بعض البضائع التي تنفق في نواحي بلاد حماة وحمص وضيعهما. ولكن يا حبيبي ، أريد منك أن تعاهدني بالله أنك تمشي معي بموجب ما أقول لك ، ولا تخالفني.
فكان جوابي : الذي تريده أنا أعمل به. فقال : أريد منك عدم البحث والتفتيش عن جميع
__________________
(١) في السطور الأخيرة من هذه الصفحة من المخطوطة بياض ، سقطت بسببه عدة كلمات. إنما المعنى واضح.
(٢) «لسان العرابي».