السوابق وشلحونا ، وشفقة بنا أبقوا لنا القميص والقنباز وأخذوا جميع ما معنا وذهبوا ، ولكنهم لم يأخذوا الحمار والكديش. فاشتد علينا البرد ، وعصف الريح القوي ، فازرقت أجسادنا واحمرت عيوننا وغابت حواسنا وقصرت السنتنا وجمدت دماؤنا وزاغ بصرنا ، وخصوصا أنا أشرفت على الهلاك قبل الجميع. فرأى الشيخ إبراهيم حالي وأني عدمت كليا ، فابتدأ يبكي ويشير بيده للذين معنا ليعملوا لي طريقة كي لا أموت. وصرنا جميعنا نتباكى ، ولا يفهم أحد من الآخر ، ويئسنا من الحياة وقطعنا أملنا منها بالكلية. ثم وقعت على الأرض مثل قطعة من الخشب وغبت تماما عن الوجود. فصار الشيخ إبراهيم يلطم على رأسه ويبكي ويعيّط وكأنه مربوط اللسان فيقول فقط : أي ، أي ، أي. وكان معنا شاب من جملة الأربعة يقال له موسى بن وردة ، نصراني ، سرياني ، صاحب نخوة ومرؤة زائدة ، فركض وسحب سكينا من على جنبه وأمسك بالكديش وأرماه على الأرض وشق بطنه من فوق إلى عند ذنبه وحملني بسرعة من الأرض ووضعني في بطن الكديش وابقى رأسي خارجا ، وأنا لا أعي على شيء ولا أعلم ٢ / ٥٦ (١) ماذا فعلوا بي. فبعد نصف ساعة وعيت على حالي ودبت الروح / في جسدي ، فأخرجوني وحملوني على الحمار وسرنا ، وبعد ساعتين وصلنا إلى الضيعة ونحن على آخر نفس. فدخلنا إلى بيت واحد بيطار نصراني يقال له حنا بيطار ، من النصارى الروم ، حيث كان معنا كتاب توصية له من الخوري موسى. فحين رآني في تلك الحال ، طمرني في كومة زبل ، وعمل النيران حولي ، وابتدأ يسقيني نبيذا ، وكذلك عمل مع الشيخ إبراهيم حتى دفئنا وسكن روعنا. فأخرجنا وأحضر لنا طعاما وأكلنا ودخّنا (٢) توتون ، وزال عنا كل مكروه ، ولكن يا له من يوم عظيم. ثم سافر رفقاؤنا في اليوم الثاني وتدينت من البيطار مئتي غرش وأعطيتهم أجرتهم مئة غرش ، وخمسين غرش بخشيشا إلى الثلاثة ، وخمسين غرشا بخشيشا أيضا إلى موسى ابن وردة لأنه هو الذي خلصني من الموت. فجلسنا في دير عطية أربعة أيام وتوجهنا إلى دمشق.
__________________
(١) اعتبارا من هذه الصفحة يبتدئ الكراس الرابع من الكتاب كما فصله الصائغ ، إذ وضع رقم ٤ في أعلى الصفحة.
(٢) «وشربنا».