ثم نرجع إلى ما كنا بصدده : لم تزل العداوة والغارات على الحسنة ، قبيلة بيت ملحم ، حتى صارت كل العشائر خصومهم (١). فقضينا كل الصيف معهم بكل عذاب وخوف ووجل ، من محل إلى محل ، حتى ابتدأت العربان تشرّق ودخل فصل الخريف. وأخيرا بقينا معهم ، وكنا بقرب حلب ونحن مرادنا التوجه نحو دمشق والدخول إلى حلب ، هذه رغبة الشيخ إبراهيم. وظللنا نترقب الفرصة لنجد من يسير بنا إلى دمشق فصعب الأمر لأننا لا نستطيع الذهاب وحدنا ، أما عرب مهنا فلا يسعهم أن يتطرفوا خوفا من سائر القبائل ، واقتضى الأمر أن العرب أخذونا إلى ضيعة يقال لها السّخنة ، شرقي حلب يومين ، تحوي على نحو مئة بيت من الجمالين ، يصنعون القلو للصابون يحملونه إلى حلب ويبيعونه أيضا. بها حمام ماء ساخنة طبيعية ، ولهذا السبب سميت السخنة. وأما أهلها فخيرون كرماء ، يحبون الضيوف. فكانوا يتقاتلون علينا حتى يضيفونا عندهم ، كل واحد بدوره ، لأن ما بها شيء للبيع مما يخص الأكل والشرب ، نساؤها حسنات جدا ، وجميع لوازمها من حلب. فجلسنا بها نحو عشرين يوما حتى توفر لنا أناس ، بكراء وافر ، أخذونا إلى تدمر ، فسلمنا على الشيخ رجب وحكينا له عما جرى لنا عند العربان ، واستقمنا عنده ستة عشر يوما ، حتى توفق لنا من أخذنا إلى القريتين ، فدخلنا وسلمنا على الشيخ سليم وعلى الخوري موسى الذي ١ / ٢٦ كنا نازلين عنده وأبقينا رزقنا تحت يده. فسألنا الخوري / عن بضاعتنا وعن بيعنا ومكسبنا فقلنا له : بعنا والله الحمد وربحنا ما لا كنا نتأمل ، والحقيقة أننا فقدنا الرأسمال والمكسب ، وجميع ثمن الرزق الذي كان معنا راح بخاشيش وهدايا وكراء وبراطيل وديون للعرب ، وظللنا جالسين بالقرية ثلاثين يوما حتى توفق لنا أناس يأخذونا إلى ضيعة بعيدة عن القريتين ست عشرة ساعة ، يقال لها دير عطية ، على طريق دمشق (٢). ولكنهم لم يعطونا دواب وخافوا من العرب أن يشلحونا ويأخذوها منا في الطريق. فاضطر الشيخ إبراهيم أن يشتري له كديشا وركبت أنا على حمار ، وكان معنا أربعة أنفار ، بمئة غرش ، ليوصلنا إلى دير عطية. وفي ذلك الوقت كان دخل فصل الشتاء العظيم. وبالقرب من دمشق (٣) يقع برد شديد لا يوصف. فخرجنا من القريتين وأبقينا رزقنا عند الخوري. وكان النهار باردا ، مع هواء وثلج ورياح شمالية قاسية جدا. فمررنا في طريق يقال له بين الجبلين. وإذ نفذ علينا خيول العرب نحو عشرين خيالا. ومن شدة البرد والخوف رمى الذين معنا بنادقهم من أياديهم ، فوصلت إلينا الخيل
__________________
(١) «ضشمانهم».
(٢) في الأصل : الشام.
(٣) في الأصل : الشام.