والذرّة ولكنّا نكلّفكم ما تظنّون أنّه عدل ووفاء. والمقصود من هذا الاحتراس أنّ لا يترك النّاس التّعامل بينهم خشية الغلط أو الغفلة ، فيفضي ذلك إلى تعطيل منافع جمّة. وقد عدل في هذا الاحتراس عن طريق الغيبة الذي بني عليه المقول ابتداء في قوله : (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [الأنعام : ١٥١] لما في هذا الاحتراس من الامتنان ، فتولّى الله خطاب النّاس فيه بطريق التكلّم مباشرة زيادة في المنّة ، وتصديقا للمبلّغ ، فالوصاية بإيفاء الكيل والميزان راجعة إلى حفظ مال المشتري في مظنّة الإضاعة ، لأنّ حالة الكيل والوزن حالة غفلة المشتري ، إذ البائع هو الذي بيده المكيال أو الميزان ، ولأنّ المشتري لرغبته في تحصيل المكيل أو الموزون قد يتحمّل التّطفيف ، فأوصي البائع بإيفاء الكيل والميزان. وهذا الأمر يدلّ بفحوى الخطاب على وجوب حفظ المال فيما هو أشدّ من التّطفيف ، فإنّ التّطفيف إن هو إلّا مخالسة قدر يسير من المبيع ، وهو الذي لا يظهر حين التّقدير فأكل ما هو أكثر من ذلك من المال أولى بالحفظ ، وتجنّب الاعتداء عليه.
ويجوز أن تكون جملة : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) تذييلا للجمل التي قبلها ، تسجيلا عليهم بأنّ جميع ما دعوا إليه هو في طاقتهم ومكنتهم. وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) في آخر سورة البقرة [٢٨٦].
(وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى).
هذا جامع كلّ المعاملات بين النّاس بواسطة الكلام وهي الشّهادة ، والقضاء ، والتّعديل ، والتّجريح ، والمشاورة ، والصّلح بين النّاس ، والأخبار المخبرة عن صفات الأشياء في المعاملات : من صفات المبيعات ، والمؤاجرات ، والعيوب ؛ وفي الوعود ، والوصايا ، والأيمان ؛ وكذلك المدائح والشّتائم كالقذف ، فكلّ ذلك داخل فيما يصدر عن القول.
والعدل في ذلك أن لا يكون في القول شيء من الاعتداء على الحقوق : بإبطالها ، أو إخفائها ، مثل كتمان عيوب المبيع ، وادّعاء العيوب في الأشياء السّليمة ، والكذب في الأثمان ، كأن يقول التّاجر : أعطيت في هذه السلعة كذا ، لثمن لم يعطه ، أو أنّ هذه السّلعة قامت علي بكذا. ومنه التزام الصّدق في التّعديل والتّجريح وإبداء النّصيحة في المشاورة ، وقول الحقّ في الصّلح. وأمّا الشّهادة والقضاء فأمر العدل فيهما ظاهر ، وإذا وعد القائل لا يخلف ، وإذا أوصى لا يظلم أصحاب حقوق الميراث ، ولا يحلف على