للإيجاز فلذلك يقدّر مضاف مثل : كراهية أو تجنّب. وعلى هذا التّقدير جرى نحاة البصرة. وذهب نحاة الكوفة إلى أنّه على تقدير (لا) النّافية ، فالتّقدير عندهم : أن لا تقولوا ، والمآل واحد ونظائر هذا في القرآن كثيرة كقوله : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦] ـ وقوله : ـ (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٥ ، ٥٦] ـ وقوله : ـ (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل : ١٥] أي لتجنّب ميدها بكم ، وقول عمرو بن كلثوم :
فعجّلنا القرى أن تشتمونا
وهذا القول يجوز أن يكون قد صدر عنهم من قبل ، فقد جاء في آية سورة القصص [٤٨] : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) ، ويجوز أن يكون متوقّعا ثمّ قالوه من بعد ، وأيّا ما كان فإنّه متوقّع أن يكرّروه ويعيدوه قولا موافقا للحال في نفس الأمر ، فكان متوقّعا صدوره عند ما يتوجّه الملام عليهم في انحطاطهم عن مجاوريهم من اليهود والنّصارى من حيث استكمال الفضائل وحسن السّير وكمال التديّن ، وعند سؤالهم في الآخرة عن اتّباع ضلالهم ، وعند ما يشاهدون ما يناله أهل الملل الصّالحة من النّعيم ورفع الدّرجات في ثواب الله فيتطلّعون إلى حظّ من ذلك ويتعلّلون بأنّهم حرموا الإرشاد في الدّنيا.
وقد كان اليهود والنّصارى في بلاد العرب على حالة أكمل من أحوال أهل الجاهليّة ، ألا ترى إلى قول النّابغة يمدح آل النّعمان بن الحارث ، وكانوا نصارى :
مجلّتهم ذات الإله ودينهم |
|
قويم فما يرجون غير العواقب |
ولا يحسبون الخير لا شرّ بعده |
|
ولا يحسبون الشرّ ضربة لازب |
والطائفة : الجماعة من النّاس الكثيرة ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) في سورة النّساء [١٠٢] ، والمراد بالطّائفتين هنا اليهود والنّصارى.
والكتاب مراد به الجنس المنحصر في التّوراة والإنجيل والزّبور. ومعنى إنزال الكتاب عليهم أنّهم خوطبوا بالكتب السّماوية التي أنزلت على أنبيائهم فلم يكن العرب مخاطبين بما أنزل على غيرهم ، فهذا تعلّل أول منهم ، وثمة اعتلال آخر عن الزّهادة في التخلّق بالفضائل والأعمال الصالحة : وهو قولهم : (وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) ، أي