ولمن أخطأه مع استفراغ الوسع أجرا واحدا ، وذلك أجر على بذل الوسع في طلبه فإنّ بذل الوسع في ذلك يوشك أن يبلّغ المقصود. فالمراد ب (الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) قال ابن عبّاس : هم المشركون ، لأنّهم لم يتّفقوا على صورة واحدة في الدين ، فقد عبدت القبائل أصناما مختلفة ، وكان بعض العرب يعبدون الملائكة ، وبعضهم يعبد الشّمس ، وبعضهم يعبد القمر ، وكانوا يجعلون لكلّ صنم عبادة تخالف عبادة غيره.
ويجوز أن يراد : أنّهم كانوا على الحنيفيّة ، وهي دين التّوحيد لجميعهم ، ففرّقوا وجعلوا آلهة عباداتها مختلفة الصّور. وأمّا كونهم كانوا شيعا فلأنّ كلّ قبيلة كانت تنتصر لصنمها ، وتزعم أنّه ينصرهم على عبّاد غيره كما قال ضرار بن الخطّاب الفهري :
وفرّت ثقيف إلى لاتها |
|
بمنقلب الخائب الخاسر |
ومعنى : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أنّك لا صلة بينك وبينهم. فحرف (من) اتّصالية. وأصلها (من) الابتدائيّة.
و (شَيْءٍ) اسم جنس بمعنى موجود فنفيه يفيد نفي جميع ما يوجد من الاتّصال ، وتقدّم عند قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) في سورة آل عمران [٢٨] ، وقوله : (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) في سورة المائدة [٦٨].
ولمّا دلّت على التبرّي منهم وعدم مخالطتهم ، كان الكلام مثار سؤال سائل يقول : أعلى الرّسول أن يتولّى جزاءهم على سوء عملهم ، فلذلك جاء الاستئناف بقوله : (إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) فهو استئناف بياني ، وصيغة القصر لقلب اعتقاد السائل المتردّد ، أي إنّما أمرهم إلى الله لا إلى الرّسول صلىاللهعليهوسلم ولا إلى غيره ، وهذا إنذار شديد ، والمراد بأمرهم : عملهم الذي استحقوا به الجزاء والعقوبة. و (إلى) مستعمل في الانتهاء المجازي : شبّه أمرهم بالضالّة التي تركها النّاس فسارت حتّى انتهت إلى مراحها ، فإنّ الخلق كلّهم عبيد الله وإليه يرجعون ، والله يمهلهم ثمّ يأخذهم بعذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين حين يأذن لرسولهصلىاللهعليهوسلم بقتالهم كما قال تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) [الدخان : ١٠ ، ١٦]. والبطشة الكبرى هي بطشة يوم بدر.
وقوله : (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (ثمّ) فيه للتّرتيب الرّتبي مع إفادة المهلة ، أي