وقد نبّه إلى هذا المعنى قوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) [الإسراء : ١٦] على قراءة تشديد ميم : دمرنا.
والأظهر في نظم الآية : أنّ (جَعَلْنا) بمعنى خلقنا وأوجدنا ، وهو يتعدّى إلى مفعول واحد كقوله : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] فمفعوله : (أَكابِرَ مُجْرِمِيها).
وقوله : (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) ظرف لغو متعلّق ب (جَعَلْنا) وإنّما قدّم على المفعول مع أنّه دونه في التعلّق بالفعل ، لأنّ كون ذلك من شأن جميع القرى هو الأهمّ في هذا الخبر ، ليعلم أهل مكّة أنّ حالهم جرى على سنن أهل القرى المرسل إليها.
وفي قوله : (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) إيجاز لأنّه أغنى عن أن يقول جعلنا مجرمين وأكابر لهم وأن أولياء الشياطين أكابر مجرمي أهل مكة ، وقوله : (لِيَمْكُرُوا) متعلّق ب (جَعَلْنا) أي ليحصل المكر ، وفيه على هذا الاحتمال تنبيه على أنّ مكرهم ليس بعظيم الشأن.
ويحتمل أن يكون (جَعَلْنا) بمعنى صيّرنا فيتعدّى إلى مفعولين هما : (أَكابِرَ مُجْرِمِيها) على أنّ (مُجْرِمِيها) المفعول الأوّل ، و (أَكابِرَ) مفعول ثان ، أي جعلنا مجرميها أكابر ، وقدم المفعول الثّاني للاهتمام به لغرابة شأنه ، لأنّ مصير المجرمين أكابر وسادة أمر عجيب ، إذ ليسوا بأهل للسؤدد ، كما قال طفيل الغنوي :
لا يصلح النّاس فوضى لا سراة لهم |
|
ولا سراة إذا جهّالهم سادوا |
تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت |
|
فإن تولّت فبالأشرار تنقاد |
وتقديم قوله : (فِي كُلِّ قَرْيَةٍ) للغرض المذكور في تقديمه للاحتمال الأوّل. وفي هذا الاحتمال إيذان بغلبة الفساد عليهم ، وتفاقم ضرّه ، وإشعار بضرورة خروج رسول الله صلىاللهعليهوسلم من تلك القرية ، وإيذان باقتراب زوال سيادة المشركين إذ تولاها المجرمون لأنّ بقاءهم على الشّرك صيّرهم مجرمين بين من أسلم منهم.
ولعلّ كلا الاحتمالين مراد من الكلام ليفرض السّامعون كليهما ، وهذا من ضروب إعجاز القرآن كما تقدّم عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [الأنعام : ١١٤].
واللّام في (لِيَمْكُرُوا) لام التّعليل ، فإنّ من جملة مراد الله تعالى من وضع نظام وجود الصّالح والفاسد ، أن يعمل الصّالح للصلاح ، وأن يعمل الفاسد للفساد ، والمكر من جملة الفساد ، ولام التّعليل لا تقتضي الحصر ، فلله تعالى في إيجاد أمثالهم حكم جمّة ،