[آل عمران : ١٨]. وشهد عليه ، أخبر عنه خبر المتثبت المتحقّق ، فلذلك قالوا : (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) أي أقررنا بإتيان الرّسل إلينا. ولا تنافي بين هذا الإقرار وبين إنكارهم الشّرك في قوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] لاختلاف المخبر عنه في الآيتين. وفصلت جملة : (قالُوا) لأنّها جارية في طريقة المحاورة.
وجملة (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) معطوفة على جملة : (قالُوا شَهِدْنا) باعتبار كون الأولى خبرا عن تبيّن الحقيقة لهم ، وعلمهم حينئذ أنّهم عصوا الرّسل ومن أرسلهم. وأعرضوا عن لقاء يومهم ذلك. فعلموا وعلم السّامع لخبرهم أنّهم ما وقعوا في هذه الربقة إلّا لأنّهم غرّتهم الحياة الدّنيا ، ولو لا ذلك الغرور لما كان عملهم ممّا يرضاه العاقل لنفسه.
والمراد بالحياة أحوالها الحاصلة لهم : من اللهو ، والتّفاخر ، والكبر ، والعناد. والاستخفاف بالحقائق ، والاغترار بما لا ينفع في العاجل والآجل. والمقصود من هذا الخبر عنهم كشف حالهم ، وتحذير السّامعين من دوام التورّط في مثله. فإنّ حالهم سواء.
وجملة : (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) معطوفة على جملة : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) وهو خبر مستعمل في التعجيب من حالهم ، وتخطئة رأيهم في الدّنيا. وسوء نظرهم في الآيات ، وإعراضهم عن التدبّر في العواقب. وقد رتّب هذا الخبر على الخبر الّذي قبله ، وهو اغترارهم بالحياة الدّنيا ، لأنّ ذلك الاغترار كان السبب في وقوعهم في هذه الحال حتّى استسلموا وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا في الدّنيا كافرين بالله ، فأمّا الإنس فلأنّهم أشركوا به وعبدوا الجنّ ، وأمّا الجنّ فلأنّهم أغروا الإنس بعبادتهم ووضعوا أنفسهم شركاء الله تعالى ، فكلا الفريقين من هؤلاء كافر ، وهذا مثل ما أخبر الله عنهم أو عن أمثالهم بمثل هذا الخبر التعجيبي في قوله : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) [الملك : ١٠ ، ١١]. فانظر كيف فرّع على قولهم أنّهم اعترفوا بذنبهم ، مع أنّ قولهم هو عين الاعتراف ، فلا يفرّع الشّيء عن نفسه ، ولكن أريد من الخبر التّعجيب من حالهم ، والتسميع بهم ، حين ألجئوا إلى الاعتراف في عاقبة الأمر.
وشهادتهم على أنفسهم بالكفر كانت بعد التّمحيص والإلجاء ، فلا تنافي أنّهم أنكروا الكفر في أوّل أمر الحساب ، إذ قالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣]. قال سعيد بن جبير : قال رجل لابن عبّاس : «إنّي أجد أشياء تختلف عليّ قال الله : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤٢] ، وقال : (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام :