(وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) [الأحزاب : ٣٨].
و (كانَ) تدلّ على تحقّق ثبوت معنى خبرها لاسمها من الماضي مثل (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم : ٤٧] أي ثبت له استحقاق الحقية علينا من قديم الزمن. وكذلك قوله : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) [مريم : ٢١]. فمعنى (كانَ مَفْعُولاً) أنّه ثبت له في علم الله أنّه يفعل. فاشتق له صيغة مفعول من فعل للدلالة على أنّه حين قدرت مفعوليته فقد صار كأنّه فعل ، فوصف لذلك باسم المفعول الذي شأنه أن يطلق على من اتّصف بتسلط الفعل في الحال لا في الاستقبال.
فحاصل المعنى : لينجز الله ويوقع حدثا عظيما متّصفا منذ القدم بأنّه محقّق الوقوع عند إبّانه ، أي حقيقا بأن يفعل حتّى كأنّه قد فعل لأنّه لا يمنعه ما يحفّ به من الموانع المعتادة.
وجملة : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) في موضع بدل الاشتمال من جملة : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) لأنّ الأمر هو نصر المسلمين وقهر المشركين وذلك قد اشتمل على إهلاك المهزومين وإحياء المنصورين وحفّه من الأحوال الدالّة على عناية الله بالمسلمين وإهانته المشركين ما فيه بيّنه للفريقين تقطع عذر الهالكين ، وتقتضي شكر الأحياء. ودخول لام التعليل على فعل (لِيَهْلِكَ) تأكيد للام الداخلة على (لِيَقْضِيَ) في الجملة المبدل منها. ولو لم تدخل اللام لقيل : يهلك مرفوعا.
والهلاك : الموت والاضمحلال ، ولذلك قوبل بالحياة. والهلاك والحياة مستعاران لمعنى ذهاب الشوكة ، ولمعنى نهوض الأمة وقوتها ، لأنّ حقيقة الهلاك الموت ، وهو أشد الضرّ فلذلك يشبّه بالهلاك كلّ ما كان ضرّا شديدا ، قال تعالى : (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) [التوبة : ٤٢] ، وبضدّه الحياة هي أنفع شيء في طبع الإنسان فلذلك يشبه بها ما كان مرغوبا ، قال تعالى : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) [يس : ٧٠] وقد جمع التشبيهين قوله تعالى : (أمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢]. فإن الكفار كانوا في عزّة ومنعة ، وكان المسلمون في قلّة ، فلما قضى الله بالنصر للمسلمين يوم بدر أخفق أمر المشركين ووهنوا ، وصار أمر المسلمين إلى جدّة ونهوض ، وكان كلّ ذلك ، عن بينة ، أي عن حجّة ظاهرة تدلّ على تأييد الله قوما وخذله آخرين بدون ريب.
ومن البعيد حمل (لِيَهْلِكَ) و (يَحْيى) على الحقيقة لأنّه وإن تحمّله المعنى في قوله: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ) فلا يتحمّله في قوله : (وَيَحْيى مَنْ حَيَ) لأنّ حياة الأحياء ثابتة لهم