وانطلقوا ، فقال له الحارث بن هشام ، أخو أبي جهل : «إلى أين أتخذلنا في هذه الحال» فقال سراقة «إني أرى ما لا ترون» فكان ذلك من أسباب عزم قريش على الخروج والمسير ، حتّى لقوا هزيمتهم التي كتب الله لهم في بدر ، وكان خروج سراقة ومن معه بوسوسة من الشيطان ، لئلا ينثني قريش عن الخروج ، وكان انخزال سراقة بتقدير من الله ليتمّ نصر المسلمين ، وكان خاطر رجوع سراقة خاطرا ملكيا ساقه الله إليه ؛ لأنّ سراقة لم يزل يتردّد في أن يسلم منذ يوم لقائه رسول الله صلىاللهعليهوسلم في طريق الهجرة ، حين شاهد معجزة سوخ قوائم فرسه في الأرض ، وأخذه الأمان من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ورويت له أبيات خاطب بها أبا جهل في قضيته في يوم الهجرة ، وما زال به ذلك حتى أسلم يوم الفتح.
وتزيين الشيطان للمشركين أعمالهم ، يجوز أن يكون إسنادا مجازيا ، وإنّما المزيّن لهم سراقة بإغراء الشيطان ، بما سوّل إلى سراقة بن مالك من تثبيته المشركين على المضي في طريقهم لإنقاذ عيرهم ، وأن لا يخشوا غدر كنانة بهم ، وقيل تمثّل الشّيطان للمشركين في صورة سراقة ، وليس تمثّل الشيطان وجنده بصورة سراقة وجيشه بمروي عن النبيصلىاللهعليهوسلم ، وإنّما روي ذلك عن قول ابن عبّاس ، وتأويل ذلك : أنّ ما صدر من سراقة كان بوسوسة من الشيطان ، ويجوز أن يكون اسم الشيطان أطلق على سراقة لأنّه فعل فعل الشيطان كما يقولون : فلان من شياطين العرب ويجوز أن يكون إسنادا حقيقا أي زيّن لهم في نفوسهم بخواطر وسوسته ، وكذلك إسناد قوله : (لا غالِبَ لَكُمُ) إليه مجاز عقلي باعتبار صدور القول والنكوص من سراقة المتأثر بوسوسة الشيطان. وكذلك قوله : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ).
وقوله : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) إن كان من الشيطان فهو قول في نفسه ، وضمير الخطاب التفات استحضرهم كأنّهم يسمعونه ، فقال قوله هذا ، وتكون الرؤية بصرية يعني رأى نزول الملائكة وخاف أن يضرّوه بإذن الله وقوله : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) بيان لقوله : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) أي أخاف عقاب الله فيما رأيت من جنود الله. وإن كان ذلك كلّه من قول سراقة فهو إعلان لهم بردّ جواره إيّاهم لئلا يكون خائنا لهم ، لأنّ العرب كانوا إذا أرادوا نقض جوار أعلنوا ذلك لمن أجاروه ، كما فعل ابن الدغنة حين أجار أبا بكر من أذى قريش ثم ردّ جواره من أبي بكر ، ومنه قوله تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) [الأنفال : ٥٨] فالمعنى : إنّي بريء من جواركم ، ولذلك قال له الحارث بن هشام : «إلى أين أتخذلنا» فيكون قد اقتصر على