يكن مؤمنا كاملا ، وليس المقصود أن من ثبتت له إحداها كان مؤمنا كاملا ، إذا لم يتصف ببقية خصال المؤمنين الكاملين ، فمعنى أولئك هم المؤمنون حقا : أن من كان على خلاف ذلك ليس بمؤمن حقا أي كاملا.
وهذا تأويل للكلام دعا إليه الجمع بين عديد الأدلة الواردة في الكتاب والسنة القولية والفعلية من ثبوت وصف الإيمان لكل من أيقن بأن الله منفرد بالإلهية وأن محمدا رسول الله إلى الناس كافة ، فتلك الأدلة بلغت مبلغ التواتر المعنوي المحصّل للعلم الضروري بأن الإخلال بالواجبات الدينية لا يسلب صفة الإيمان والإسلام عن صاحبه ، فليس حمل القصر على الادعائي هنا مجرد صنع باليد ، أو ذهاب مع الهوى على أن شأن الاتصاف ببعض صفات الفضائل أن يتناسق مع نظائرها فمن كان بحيث إذا ذكر الله وجل قلبه لا بد أن يكون بحيث إذا تليت عليه آيات الله زادته إيمانا ، فهذا تحقيق معنى القصرين.
ومما يزيد هذا المعنى وضوحا ما روى الطبراني ، عن الحارث بن مالك الأنصاري ، أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال للحارث بن مالك الأنصاري يا حارث كيف أصبحت قال أصبحت مؤمنا حقا قال اعلم ما تقول ـ أو انظر ما تقول ـ إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك قال عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري ، وكأني انظر إلى عرش ربي ، وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون ، وكأني أسمع عوراء أهل النار ، فقال له يا حارث عرفت فالزم ثلاثا وهو حديث ضعيف وإن كثرت طرقه.
فقول الحارث «أصبحت مؤمنا حقا» ظاهر في أنه أراد منه مؤمنا كاملا وكذلك قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك» ظاهر في أنه سأله عن ما كان به إيمانه كاملا ولم يسأله عن أصل ماهية الإيمان لأنه لم يكن يشك في أنه من عداد المؤمنين.
ومن هذا المعنى ما ذكره القرطبي وغيره أن رجلا سأل الحسن البصري فقال له يا أبا سعيد أمؤمن أنت فقال : «الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب ، فأنا به مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ـ إلى قوله ـ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الأنفال : ٢ ـ ٤] فو الله ما أدري أنا منهم أم لا؟.
وانتصب (حَقًّا) على أنه مفعول مطلق صفة لمصدر محذوف دل عليه (الْمُؤْمِنُونَ) أي إيمانا حقا ، أو على أنه موكد لمضمون جملة (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) أي ثبوت الإيمان لهم حق لا شبهة فيه ، وهو تحقيق لمعنى القصر بما هو عليه من معنى المبالغة ،