للنفير وترك العير ، بعد أن تبين أي ظهر أن الله قدر لهم النصر ، وهذا التبيّن هو بيّن في ذاته سواء شعر به كلهم أو بعضهم فإنه بحيث لا ينبغي الاختلاف فيه ، فإنهم كانوا عربا أذكياء ، وكانوا مؤمنين أصفياء ، وقد أخبرهم النبي صلىاللهعليهوسلم بأن الله ناصرهم على إحدى الطائفتين : طائفة العير أو طائفة النفير ، فنصرهم إذن مضمون ، ثم أخبرهم بأن العير قد أخطأتهم ، وقد بقي النفير ، فكان بيّنا أنهم إذا لقوا النفير ينصرهم الله عليه ، ثم رأوا كراهة النبي صلىاللهعليهوسلم لمّا اختاروا العير ، فكان ذلك كافيا في اليقين بأنهم إذا لقوا المشركين ينتصرون عليهم لا محالة ، ولكنهم فضلوا غنيمة العير على خضد شوكة أعدائهم ونهوض شوكتهم بنصر بدر ، فذلك معنى تبيّن الحق أي رجحان دليله في ذاته ، ومن خفي عليه هذا التبيّن من المؤمنين لم يعذره الله في خفائه عليه.
ومن هذه الآية يؤخذ حكم مؤاخذة المجتهد إذا قصّر في فهم ما هو مدلول لأهل النظر ، وقد غضب النبي صلىاللهعليهوسلم من سؤال الذي سأله عن ضالة الإبل بعد أن سأله عن ضالة الغنم فأجابه هي لك أو لأخيك أو للذئب. فلما سأله بعد ذلك عن ضالّة الإبل تمعّر وجهه وقال «مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها تشرب الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها» وروى مالك ، في «الموطأ» ، أن أبا هريرة مرّ بقوم محرمين فاستفتوه في لحم صيد وجدوا أناسا أحلة يأكلونه فأفتاهم بالأكل منه ثم قدم المدينة فسأل عمر بن الخطاب عن ذلك فقال له عمر بم أفتيتهم قال : أفتيتهم بأكله فقال : «لو أفتيتهم بغير ذلك لأوجعتك».
وجملة : (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) في موضع الحال من الضمير المرفوع في (يُجادِلُونَكَ) أي حالتهم في وقت مجادلتهم إياك تشبه حالتهم لو ساقهم سائق إلى الموت ، والمراد بالموت الحالة المضادة للحياة وهو معنى تكرهه نفوس البشر ، ويصوره كل عقل بما يتخيله من الفظاعة والبشاعة كما تصوره أبو ذؤيب في صورة سبع في قوله :
وإذا المنية أنشبت أظفارها
وكما تخيل ، تأبط شرا الموت طامعا في اغتياله فنجا منه حين حاصره أعداؤه في جحر في جبل :
فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا |
|
به كدحة والموت خزيان ينظر |
فقوله تعالى : (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) تشبيه لحالهم ، في حين المجادلة في اللحاق بالمشركين ، بحال من يجادل ويمانع من يسوقه إلى ذات الموت.