وبهذا تعلم أن الفتنة قد تكون عقابا من الله تعالى في الدنيا ، فهي تأخذ حكم العقوبات الدنيوية التي تصيب الأمم ، فإن من سنتها أن لا تخص المجرمين إذا كان الغالب على الناس هو الفساد ، لأنها عقوبات تحصل بحوادث كونية يستتب في نظام العالم الذي سنه الله تعالى في خلق هذا العالم أن يوزع على الأشخاص كما ورد في حديث النهي عن المنكر في الصحيح : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا : لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا» وفي «صحيح مسلم» عن زينب بنت جحش أنها قالت : «يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ـ قال : نعم إذا كثر الخبث ثم يحشرون على نياتهم».
وحرف (لا) في قوله : (لا تُصِيبَنَ) نهي بقرينة اتصال مدخولها بنون التوكيد المختصة بالإثبات في الخبر وبالطلب ، فالجملة الطلبية : إما نعت ل (فِتْنَةً) بتقدير قول محذوف ، ومثله وارد في كلام العرب كقول العجاج :
حتى إذا جن الظلام واختلط |
|
جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط |
أي مقول فيه. وباب حذف القول باب متسع ، وقد اقتضاه مقام المبالغة في التحذير هنا والاتقاء ـ من الفتنة فأكد الأمر باتقائها بنهيها هي عن إصابتها إياهم ، لأن هذا النهي من أبلغ صيغ النهي بأن يوجه النهي إلى غير المراد نهيه تنبيها له على تحذيره من الأمر المنهي عنه في اللفظ ، والمقصود تحذير المخاطب بطريق الكناية لأن نهي ذلك المذكور في صيغة النهي يستلزم تحذير المخاطب فكأنّ المتكلم يجمع بين نهيين ، ومنه قول العرب : لا أعرفنّك تفعل كذا ، فإنه في الظاهر المتكلم نفسه عن فعل المخاطب ، ومنه قوله تعالى : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) [الأعراف : ٢٧] ويسمى هذا بالنهي المحول ، فلا ضمير في النعت بالجملة الطلبية.
ويجوز أن تكون جملة : (لا تُصِيبَنَ) نهيا مستأنفا تأكيدا للأمر باتقائها مع زيادة التحذير بشمولها من لم يكن من الظالمين.
ولا يصح جعل جملة : (لا تُصِيبَنَ) جوابا للأمر في قوله : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) لأنه يمنع منه قوله : (الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) وإنما كان يجوز لو قال : «لا تصيبنكم» كما يظهر