واقتصر على المخون فيه في قوله : (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) أي في أماناتكم أي وتخونوا الناس في أماناتكم.
والنهي عن خيانة الأمانة هنا : إن كانت الآية نازلة في قضية أبي لبابة : إن ما صدر منه من إشارة إلى ما في تحكيم سعد بن معاذ من الضر عليهم يعتبر خيانة لمن بعثه مستفسرا ، لأن حقه أن لا يشير عليهم بشيء ، إذ هو مبعوث وليس بمستشار.
وإن كانت الآية نزلت مع قريناتها فنهي المسلمين عن خيانة الأمانة استطراد لاستكمال النهي عن أنواع الخيانة ، وقد عدل عن ذكر المفعول الأصلي ، إلى ذكر المفعول المتسع فيه ، لقصد تبشيع الخيانة بأنها نقض للأمانة ، فإن الأمانة وصف محمود مشهور بالحسن بين الناس ، فما يكون نقضا له يكون قبيحا فظيعا ، ولأجل هذا لم يقل : وتخونوا الناس في أماناتهم فهذا حذف من الإيجاز.
والأمانة اسم لما يحفظه المرء عند غيره مشتقة من الأمن ؛ لأنه يأمنه من أن يضيعها ، والأمين الذي يحفظ حقوق من يواليه ، وإنما أضيفت الأمانات إلى المخاطبين مبالغة في تفظيع الخيانة ، بأنها نقض لأمانة منسوبة إلى ناقضها ، بمنزلة قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] دون : ولا تقتلوا النفس.
وللأمانة شأن عظيم في استقامة أحوال المسلمين ، ما ثبتوا عليها وتخلقوا بها ، وهي دليل نزاهة النفس واعتدال أعمالها ، وقد حذر النبي صلىاللهعليهوسلم من إضاعتها والتهاون بها ، وأشار إلى أن في إضاعتها انحلال أمر المسلمين ، ففي «صحيح البخاري» عن حذيفة بن اليمان قال حدثنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم حديثين : رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر ، حدثنا أن الأمانة نزلت على جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة ، وحدثنا عن رفعها فقال : ينام الرجل النومة فتقبض من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ، ثم ينام النّومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء ، ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال إن في بني فلان رجلا أمينا ، ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده ، وما في قلبه مثقال حبّه خردل من إيمان».
(الوكت سواد يكون في البسر إذا قارب أن يصير رطبا ، والمجل غلظ الجلد من أثر العمل والخدمة ، ونفط تقرّح ومنتبرا منتفخا) ، وقد جعلها النبي صلىاللهعليهوسلم من الإيمان إذ قال في آخر الأخبار عنها وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، وحسبك من رفع شأن الأمانة :