وقوله ـ (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) [الأنفال : ٢١] ـ ثم بقوله ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٣٠].
وهذه الجمل عطف على جملة : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) [الأنفال : ٢٣].
وهذا القول مقالة المتصدين للطعن على الرسول صلىاللهعليهوسلم ، ومحاجته ، والتشغيب عليه : منهم النضر بن الحارث ، وطعمية بن عدي ، وعقبة بن أبي معيط.
ومعنى (قَدْ سَمِعْنا) : قد فهمنا ما تحتوي عليه ، لو نشاء لقلنا مثلها وإنما اهتموا بالقصص ولم يتبيّنوا مغزاها ولا ما في القرآن من الآداب والحقائق ، فلذلك قال الله تعالى عنهم (كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) [الأنفال : ٢١] أي لا يفقهون ما سمعوا.
ومن عجيب بهتانهم أن الرسول صلىاللهعليهوسلم تحدّاهم بمعارضة سورة من القرآن ، فعجزوا عن ذلك وأفحموا ، ثم اعتذروا بأن ما في القرآن أساطير الأولين وأنهم قادرون على الإتيان بمثل ذلك ـ قيل : قائل ذلك هو النضر بن الحارث من بني عبد الدار ، كان رجلا من مردة قريش ومن المستهزئين ، وكان كثير الأسفار إلى الحيرة وإلى أطراف بلاد العجم في تجارته ، فكان يلقى بالحيرة ناسا من العباد (بتخفيف الباء اسم طائفة من النصارى) فيحدثونه من أخبار الإنجيل ويلقى من العرب من ينقل أسطورة حروب (رستم) و (إسفنديار) (١) من ملوك الفرس في قصصهم الخرافي ، وإنما كانت تلك الأخبار تترجم للعرب باللسان ويستظهرها قصاصهم وأصحاب النوادر منهم ولم يذكر أحد أن تلك الأخبار كانت مكتوبة بالعربية ، فيما أحسب ، إلّا ما وقع في «الكشاف» أن النضر بن الحارث جاء بنسخة من خبر (رستم) و (اسفندياذ) ولا يبعد أن يكون بعض تلك الأخبار
__________________
(١) اسفندياذ بهمزة قطع مكسورة ، فسين مهملة ساكنة ، ففاء أخت القاف وقد يكتب بباء موحدة عوض الفاء لأن الباء الفارسية منطقها بين الباء والفاء العربية فكثيرا ما تعرب بالفاء وبالباء وهي مفتوحة وبعضهم يضبطها بالكسر ، ثم دال مهملة مكسورة ، فتحتية ، وآخره ذال معجمة كذا نطق به العرب وكذلك كتب في «تفسير ابن عطية» ، وهو في العجمية براء في آخره قاله التفتازاني في «شرح الكشاف».
قلت : وهو في «الكشاف» وفي «سيرة ابن هشام» بالراء وهو إسفنديار بن (كشتاسب) من العائلة الكيانيين من ملوك الفرس لأن أسماء ملوكها مفتتحه بكلمة (كي) أولهم (كيقباذ) وفي زمن (كشتاسب) ظهر (زرادشت) صاحب الديانة الشهيرة في الفرس قبل الإسلام ، وأخبار حروب إسفنديار مع رستم وكلهم من ملوك الطوائف بفارس وكان رستم ملك بلاد الترك.