(ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) :
فكما الخلق والتقدير في الحياة الدنيا نعمة ، كذلك الموت فإنه قفزة إلى حياة أوسع وأرقى ، حياة البرزخ التي تظهر لنا حقائق أعمالنا : رحمه للمؤمنين إذ انتقلوا إلى رحمة الله ، ولمن سواهم أيضا إذا انقطع بموتهم المزيد من دوافع وأسباب العذاب ، ورحمة للباقين أن يتخلصوا من أذاه ، ورحمة بصورة عامة إذ لو لا الموت لأصبحت الحياة عذابا فوق العذاب ، كيف لا ومع واقع الموت نرى كيف يظلم بعضهم البعض؟ وكيف يفترسون؟! فالموت إذا من رحمات الله كما الحياة الدنيا ولأنها مدرسة الآخرة.
وكما الموت له نعمة كذلك قبره بعد الموت ـ وعلى حدّ تعبير الإمام الرضا عليه السّلام : «لئلا يظهر الناس على فساد جسده وقبح منظره وتغير ريحه ولا تتأذى به الأحياء بريحه وبما يدخل به الآفة والدنس والفساد ، وليكون مستورا عن الأولياء والأعداء فلا يشمت عدو ولا يحزن صديق» (١).
«فأقبره» : ينسب قبره إلى نفسه تعالى إذ هو علّمنا كيف نواري سوآت موتانا ، «فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين» (٥ : ٣١) فهذه بداية معرفة الإنسان كيف يواري سوآت الأموات تحت التراب ، ومن ثم أمر الله تعالى بدفن الأموات كرامة لهم ورعاية ، فلم يجعل السنة أن يتركوا على ظهر الأرض للجوارح والكواسر ، والأمر بالقبر هو الإقبار كما الدفن وهو فعل الإنسان هو القبر ، فلذلك نسب الإقبار إلى نفسه لا القبر.
ثم نعمة أخيرة هي مفتاح نعمة الخلود لمن عرف قيمة الحياة ولم يمهلها سدى.
__________________
(١) نور الثقلين ٥ : ٥١٠ علل الشرائع فضل بن شاذان سمع الرضا (ع) فإن قال فلم أمر بدفنه؟ قيل : لئلا يظهر ..