مخيّر في مشيئته الاستقامة كمفوّض إليه أمره (١) ، ولا هو مسيّر في أمره ، وإنما هو بين مشيئتين : من الله ومن نفسه : فمن نفسه : أنه يختار ويشاء الاستقامة بما جعله الله مختارا ، ومن الله ان وفقه للوصول إلى ما يشاء من الاستقامة ، فلو لا توفيق من الله لم تكن مشيئة الإنسان ـ أيا كان ـ لتوصله إلى واقع الاستقامة فالتذكر بذكر القرآن ، ف (اللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) و (ما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ).
إلى صراط مستقيم فإذا لم يكن واقع الهداية بمشيئة الرسول ، وإنما له وعليه الدلالة فحسب ، فأولى بمن سواه ألّا يقدروا على واقع الهداية لأنفسهم ، وإنما يملكون ـ هم ـ مشيئة الاهتداء والاستقامة فالذكر ، ثم الرسول دليلهم في مسير الهداية تشريعيا ، ثم الله من وراء القصد يهديهم إلى واقع الهداية تكوينيا ، ف «ما تشاؤون : (تحقق الهداية مشيئة تحقيق توصلكم إلى حق الهداية) إلا ان يشاء الله (أيضا لكم إياها تشريعيا وتكوينيا ، ولأنه) رب العالمين».
إذا فتحقق الاستقامة والهداية ، بحاجة أولا إلى مشيئة من المستقيم تكوينيا ، ثم مشيئة من الله تشريعيا للدلالة على كيفية الاستقامة والهداية ، ثم مشيئة منه
__________________
(١) ويشهد له ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما نزلت (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قالوا : الأمر إلينا إن شئنا ، وإن شئنا لم نستقم ، فهبط جبريل على رسول الله (ص) فقال : كذبوا يا محمد! (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ففرح بذلك رسول الله (ص).
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن القاسم بن محيمر قال : لما نزلت (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قال أبو جهل أرى الأمر إلينا فنزلت الآية ، الدر المنثور ٦ ـ ٢٢.
أقول فالآية كما حققناه تعني نفي التفويض في الأمر كما الأولى تدل على نفي الجبر ، فليس إلا أمر بين أمرين.