منذ نزوله وحتى نزول آية الإقراء ، فليكن الإقراء ـ هذا ـ غير الذي كان ، والنص هنا : (فَلا تَنْسى) يميزه بعدم النسيان ، المتفرع على هذا الإقراء الخاص ، فلقد كان حتى الآن يقرأ ، وكان يكرر الآيات لكي لا ينسى (١) ، محاولة بشرية لحفظها ، ولكنها ليست بالتي تطمئن الإنسان ، فقد ينسى ـ رغم كافة المحاولات ـ وقد ينسى أنه ناس.
والعصمة ـ ولا سيما في الرسالة الأخيرة الخالدة ـ إنها لزام الرسالة : في تلقي الوحي وإلقائه وتطبيقه ، وإلقاء الوحي كما أوحي ، بحاجة ملمة إلى الحفظ الدائب ، ودون تكلّف زائد ، وليكن كل محاولاته في تبليغ الوحي وتطبيقه.
فهذه بشارة له صلّى الله عليه وآله وسلّم برفع عناء الحفظ ، تريحه وتطمئنه على القرآن ، بحفظه في قلبه وعلى لسانه ، وكما وعد بالحفاظ عليه في أمته وإلى يوم الدين عن تحريف المبطلين ، وإدغال الدجالين ، وقد عرفناه مسبّقا ، وكما وعده بجمعه وقرآنه كتابا مفصلا ، بعد نثره في نزوله نجوما حسب الحاجات : حفظا مركزا لا تتخلله أية ريبة وشائبة.
ولقد كان القرآن ينزل على قلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم من قبل (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) ، ثم أخذ يمزج قلبه المنير ، ويدخل شغافه لحدّ أصبح قلبه قرآنا لم يبق مجال لنسيانه.
__________________
(١) الدر المنثور ٦ : ٣٣٩ ، أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : «كان النبي (ص) إذا أتاه جبريل بالوحي لم يفرغ جبريل من الوحي حتى يزمل من ثقل الوحي حتى يتكلم النبي (ص) بأوله مخافة أن يغشى عليه فينسى ، فقال له جبريل : لم تفعل ذلك؟ قال : مخافة أن أنسى ، فأنزل الله (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) وفيه عنه أيضا : كان النبي (ص) يستذكر القرآن مخافة أن ينساه ، فقيل له كفيناك ذلك ونزلت (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى).