(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ. لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) : كلمة ذات لغو ، فالنار فيها كل كلمة لاغية ، يتلاغى أهلها فيها ، والجنة خلو عن أية لاغية ، يتلاقى أهلها مع بعض ومع خزنتها بكل حنان واحترام ، كلماتهم حكمة ، وحركاتهم حكمة ، ولأنهم دخلوها بالمعرفة والحكمة ، فليست هي إذا مكان اللهو واللغو والغفلة عن الله ، ولا التحرر عن قيود العقل والإيمان والمعرفة ، رغم أنها ليست بدار التكليف ، فالواجبات التي هي لزام العبودية والمعرفة ، والمحرمات التي تنافيها ، إنها تبقى على حالها في الجنة ، ولكنها تطبّق هناك دون تكلّف وبلاء ، وإنما الابتلائية منها والامتحانية ، هذه هي التي تترك فيها ، إذ لا بلاء هناك ولا تكليف ، ففيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، ولكن أهلها لا يشتهون الظلم والضيم ، ولا يلتذون بالمحرمات الذاتية ، لأنهم ظهروا على الحقائق كلها وظهرت لهم ، وأنها ليست دار التزاحم واللااطمئنان : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) (٤٤ : ٥١) (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) (٤٧ : ٣٦) فلا أضغان تدفع إلى المنافرات ، ولا تزاحم ينافي الأمن ، (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (١٥ : ٤٧).
فهذه هي الجنة العالية ، وليست دانية فيها الرذالات وجماع العادات والتصرفات السيئة ، أن أهلها تركوا المحرمات لفترة قصيرة يوم الدنيا ، ولكي يتحرروا فيها لغير النهاية! وتفصيل هذا البحث إلى محالها المختلفة في طيّات الآيات.
هذه هي اللذة الروحانية في جنة الرضوان ، ثم تتلوها الجسدانية في جنة النعيم :
(فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ. فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ. وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ. وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ. وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) :
عين جارية : جنسها ، وليست صنفا خاصا ، أو عينا واحدة ، وإنما ينابيع