«يا له مراما ما أبعده ، وزورا ما أغفله ، وخطرا ما أفظعه ، لقد استخلوا منهم أي مدكر ، وتناوشوهم من مكان بعيد ، أفبمصارع آبائهم يفخرون ، أم بعديد الهلكى يتكاثرون ، يرتجعون منهم أجسادا خوت ، وحركات سكنت ، ولأن يكونون عبرا أحق من أن يكونوا مفتخرا ، ولأن يهبطوا بهم جناب ذلة أحجى من أن يقوموا بهم مقام عزة ، لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة ، وضربوا منهم في غمرة جهالة ، ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية ، والربوع الخالية ، لقالت : ذهبوا في الأرض ضلالا ، وذهبتم في أعقابهم جهالا ، تطوءون في هامهم ، وتستثبتون في أجسادهم ، وترتعون فيما لفظوا ، وتسكنون فيما خربوا.
* * *
وإنما الأيام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم ، أولئك سلف غايتكم وفراط مناهلكم الذين كانت لهم مقاوم العز وحلبات الفخر ملوكا وسوقا ، سلكوا في بطون البرزخ سبيلا ، سلطت الأرض عليهم فيه ، فأكلت من لحومهم وشربت من دمائهم فأصبحوا في فجوات قبورهم جمادا لا ينمون وضمارا لا يوجدون ، لا يفزعهم ورود الأهوال ، ولا يحزنهم تنكر الأحوال ، ولا يحفلون بالرواجف ولا يأذنون للقواصف غيبا ، لا ينتظرون وشهودا لا يحضرون ، وانما كانوا جميعا فتشتتوا وآلافا فافترقوا ، وما عن طول عهدهم ولا بعد محلهم ، عميت أخبارهم وصمت ديارهم ، ولكنهم سقوا كأسا بدلتهم بالنطق خرسا وبالسمع صمما وبالحركات كونا ، فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات ، جيران يتآنسون». هذا هو التكاثر الذي يندد به الله ويخشى منه رسول الله على حد قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ما أخشى عليكم الفقر ، ولكن أخشى عليكم التكاثر» (١).
__________________
(١) الدر المنثور ، أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن زيد بن اسلم عن أبيه قال قرأ رسول الله (ص) ألهاكم متكاثر ، وأخرجه ابن مردويه عن عياض بن غنم عنه (ص) مثله.