الورع كان يظهر خياله في الحائط أبيض والفاجر يظهر خياله أسود ، وكان أيضا مما اتخذ من الأعاجيب أن ينصب في زاوية من زواياه عصا آبنوس فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم تضرّه ومن مسها من غيرهم أحرقت يده ، وقد وصفها القدماء بصفات إن استقصيتها أمللت القارئ ، والذي شاهدته أنا منها أن أرضها وضياعها وقراها كلّها جبال شامخة وليس حولها ولا بالقرب منها أرض وطيئة البتة وزروعها على الجبال وأطرافها بالفؤوس لأن الدواب لا صنع لها هناك ، وأما نفس المدينة فهي على فضاء في وسط تلك الجبال وأرضها كلها حجر من الجبال التي هي عليها وفيها أسواق كثيرة وعمارات حسنة ، وأما الأقصى فهو في طرفها الشرقي نحو القبلة أساسه من عمل داود ، عليه السّلام ، وهو طويل عريض وطوله أكثر من عرضه ، وفي نحو القبلة المصلى الذي يخطب فيه للجمعة وهو على غاية الحسن والإحكام مبنيّ على الأعمدة الرخام الملونة والفسيفساء التي ليس في الدنيا أحسن منها لا جامع دمشق ولا غيره ، وفي وسط صحن هذا الموضع مصطبة عظيمة في ارتفاع نحو خمسة أذرع كبيرة يصعد إليها الناس من عدة مواضع بدرج ، وفي وسط هذه المصطبة قبة عظيمة على أعمدة رخام مسقفة برصاص منمّقة من برّا وداخل بالفسيفساء مطبقة بالرخام الملون قائم ومسطح ، وفي وسط هذا الرخام قبة أخرى وهي قبة الصخرة التي تزار وعلى طرفها أثر قدم النبي ، صلّى الله عليه وسلّم ، وتحتها مغارة ينزل إليها بعدّة درج مبلّطة بالرخام قائم ونائم يصلّى فيها وتزار ، ولهذه القبة أربعة أبواب ، وفي شرقيها برأسها قبة أخرى على أعمدة مكشوفة حسنة مليحة يقولون إنها قبة السلسلة ، وقبة المعراج أيضا على حائط المصطبة وقبة النبي داود ، عليه السّلام ، كل ذلك على أعمدة مطبق أعلاها بالرصاص ، وفيها مغاور كثيرة ومواضع يطول عددها مما يزار ويتبرك به ، ويشرب أهل المدينة من ماء المطر ، ليس فيها دار إلا وفيها صهريج لكنها مياه رديّة أكثرها يجتمع من الدروب وإن كانت دروبهم حجارة ليس فيها ذلك الدّنس الكثير ، وبها ثلاث برك عظام : بركة بني إسرائيل وبركة سليمان ، عليه السّلام ، وبركة عياض عليها حمّاماتهم ، وعين سلوان في ظاهر المدينة في وادي جهنم مليحة الماء وكان بنو أيوب قد أحكموا سورها ثم خرّبوه على ما نحكيه بعد ، وفي المثل : قتل أرضا عالمها وقتلت أرض جاهلها ، هذا قول أبي عبد الله محمد بن أحمد بن البنّاء البشّاري المقدسي له كتاب في أخبار بلدان الإسلام وقد وصف بيت المقدس فأحسن فالأولى أن نذكر قوله لأنه أعرف ببلده وإن كان قد تغير بعده بعض معالمها ، قال : هي متوسطة الحرّ والبرد قلّ ما يقع فيها ثلج ، قال : وسألني القاضي أبو القاسم عن الهواء بها فقلت : سجسج لا حرّ ولا برد ، فقال : هذه صفة الجنّة ، قلت : بنيانهم حجر لا ترى أحسن منه ولا أنفس منه ولا أعفّ من أهلها ولا أطيب من العيش بها ولا أنظف من أسواقها ولا أكبر من مسجدها ولا أكثر من مشاهدها ، وكنت يوما في مجلس القاضي المختار أبي يحيى بهرام بالبصرة فجرى ذكر مصر إلى أن سئلت : أيّ بلد أجلّ؟ قلت : بلدنا ، قيل : فأيهما أطيب؟ قلت : بلدنا ، قيل : فأيهما أفضل؟ قلت : بلدنا ، قيل : فأيهما أحسن؟ قلت : بلدنا ، قيل : فأيهما أكثر خيرات؟ قلت : بلدنا ، قيل : فأيهما أكبر؟ قلت : بلدنا ، فتعجب أهل المجلس من ذلك وقيل : أنت رجل محصّل وقد ادّعيت ما لا يقبل منك وما مثك إلا كصاحب