السنن الكونية خاضعة لتدبير الله
(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ..) وأعطى كل شيء قانون حياته ، مما خلقه من سنن كونية للوجود ، وجعلها خاضعة لتدبيره ، وجارية على نهج حكمته. ولذلك كانت الفطرة تتجه إلى البحث عن سرّ الأشياء ، في ما تختزنه من عمق السببية التكوينية في حركة الوجود ، من خلال وعيها للنظام الكوني الكامن في عمق الظواهر ، مما كان مرتبطا بالخلق منذ بدايته ، فلم تكن هناك حالة فراغ بين ما هو الخلق ، وما هو القانون الذي يحكمه ويديره ، بل كان التقدير لازما له في طبيعته. ولذا فإن الله يتولى تدبير الكون من خلال سننه الكونية ، كما يشرف على حركته من خلال هيمنته على تلك السنن ، لأنها لا تملك الاستغناء عنه ، بل هي مشدودة إلى قدرته وإرادته بطبيعة انشداد الوجود بنفسه إليه ، فلا خالق غيره ، ولا مدبّر سواه.
(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) لأنهم لا يملكون السرّ المطلق للوجود في ذواتهم ليستطيعوا من خلال ذلك أن يمنحوا الوجود لشيء آخر ، (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) حيث كانوا عدما ، ثم تحولوا إلى الوجود بخلق الله لهم ، (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ، لأن ذلك كله خاضع للتدبير الإلهي الذي يملك وحده الضر والنفع من ناحية المبدأ والتفاصيل ، لأن سبب ذلك كله بيده (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) لأن للموت أسبابه الطبيعية التي هي بيد الله وبإرادته ، وبتقدير سببيّته من خلاله ، وللحياة والنشور أسبابهما الخاضعة لله في كل مجالاتهما ، وليس بيد هؤلاء شيء منها ، فكيف يمكن أن يكون هؤلاء آلهة ، وهم لا يملكون أيّ شيء من خصائص الآلهة ، في ما يتصرفون به في شؤون خلقهم ، وما يدبرونه من أمورهم ، ويحركونه من شؤون الحياة والموت والنشور؟!