وإذا كان إبراهيم معصوما عن الخطأ ، فهو لم يكن في سياق التأكيد على وجود خطيئة صادرة منه ، بل كان في مجال الإيحاء بالغفران الإلهي للخاطئين في مقام التأكيد على صفة الرحمة التي تفتح قلوب عباده ، على محبته وتقواه.
* * *
إبراهيم يناجي ربه
ثم انطلق إبراهيم بعيدا عن خطابهم وعن الحديث الذاتي الذي كان يوحي به إلى نفسه وإلى من حوله في مناجاته الذاتية ، فقد أشرق الله في قلبه فاندفع إليه يدعوه ويستعين به ويتحدث إليه عن تطلعاته وأمانيّه الروحيّة :
(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) أواجه به الأشياء والقضايا والأشخاص بالرؤية الواضحة التي تتوازن فيها المعطيات التي تحيط بالأمور ، أو تتعمق في داخلها ، فيصدر عني الحكم عليها بطريقة متوازنة سديدة ، لا تخضع للخطأ في التقدير ، ولا للخلل في فهم الموقف ، في ما يتصف به الحسّ الاجتماعي من وعي للمجتمع لما يصلحه ، ولما يفسده ، وما يختزنه العقل من عمق الحكمة ، ودقة المعرفة ، ولما تتحرك به الخطى من تركيز واستقامة. وهذا ما يطلبه المؤمن لنفسه عند ما يريد العيش بين الناس كعنصر حيّ فاعل في إدراكه للأمور وتقديره لحدودها ، وفي إصدار الأحكام عليها بشكل حاسم دقيق ، حتى لا يبقى حائرا أمام الجهل ، ومهتزا أمام العواصف ، فيكون الإنسان الذي يعرف ما يريد لنفسه ، وما يريده للناس في ميزان المسؤولية العامة والخاصة ، وهذا ما يعطيه الله للأنبياء الذين يرسلهم إلى الناس ليقودوا الحياة من خلال رسالاتهم ، التي أوحى الله بها إليهم ، وليعرفوا كيف يحركونها في وعي الناس وضمائرهم وحياتهم ، من خلال ما ألهمهم الله من الحكمة البليغة ، وما عرّفهم من نتائج التجربة الواعية.