إذا تبيّن هذا ؛ فنقول : معرفة الله تعالى واجبة على كلّ مكلّف ، لأنّها دافعة للضّرر ، وكلّما كان دافعا للضّرر فهو واجب.
أمّا أنّها دافعة للضّرر ؛ فلأنّ المكلّف إذا نظر في نفسه وجد عليه منافع من الوجود والحياة والشّهوة والحواس ، ويعلم أنّها ليست من نفسه ، بل من غيره.
فيقول : هذه المنافع الّتي حصلت لي من الغير لا تخلو : إمّا أن يكون الموصل لها إليّ قصد بها النّفع أو الضّرر ؛ فإن قصد النّفع فيكون منعما عليّ ، وشكر المنعم واجب بالضّرورة فيجب عليّ معرفته لأشكره ، لأنّ شكر المنعم واجب بضرورة العقل ، ولا أشكره إلّا بعد معرفته ، لأنّ الشّكر إنّما يكون شكرا إذا وقع على وجه يليق بالمشكور ، ولو لم يعرفه ، لجاز أن لا يليق به فلا يكون شكرا ، واذا لم يشكره جوّز حصول الضّرر بتركه (١) الشّكر. وإن كان الموصل لها قاصدا للضّرر فيجب عليّ أن أعرفه ، لأحترز من ضرره ، لأنّه ما لم أعرفه لا يمكن (٢) الاحتراز من ضرره ، فيجب عليّ أن أعرف فاعل هذه المنافع : إمّا لأشكره ، أو لأحترز من ضرره ، لأنّ الاحتراز من الضّرر واجب أيضا بضرورة العقل.
وأمّا أنّ كلّما كان دافعا للضّرر فهو واجب ؛ فلأنّه ضروريّ ، فثبت وجوب المعرفة ، فيجب على المكلّف أن يعرف أنّ له صانعا أوجده.
والطّريق إلى معرفته : النّظر ، الّذي هو الفكر ، وهو عبارة عن ترتيب أمور ذهنيّة يتوصّل بها إلى معرفة شيء آخر.
فقولنا : ترتيب ، هو عبارة عن جعل أشياء بحيث يكون لبعضها إلى بعض نسبة بالتّقدّم والتّأخّر. وقولنا : أمور ذهنيّة ، حتّى يخرج عنه ترتيب الامور الخارجيّة ، مثل : ترتيب الأجسام على ما ذكر. وقولنا : ذهنيّة ليعمّ المعلومة والمظنونة.
وإنّما قلنا : انّ الطّريق إلى معرفة الله تعالى النّظر ، لأنّ الطّريق الّتي يتوصّل
__________________
(١) «ج» : بترك.
(٢) «ج» : أتمكّن من.